ماهر المهدى

العيب عيب العباءة

الجمعة، 14 أبريل 2017 08:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تحسس سلاحه الميرى وراح يجز على أسنانه بينما الشعور بالحسرة والهزيمة يتسرب إليه من قاع قلبه حيث ترقد القصة . قال : كنت منهمكا فى عملى فى أحد المواقع، حين توقفت تلك السيارة الفارهة ثم هبط منها رجل وقور قد وخط المشيب مفرقه وخط الزمان اسمه على ملامحه فترك وجها متعبا محير الملامح ثاقب النظرات .

 

تقدم الرجل إلى حيث تحدث إلي فى أمر معاملة رسمية له ، فخففت إلى عملى أنجزه فى سرعة وهمة ليقضى الرجل مصلحته . وما هى إلا دقائق حتى كانت أوراق الرجل ومعاملته قد انتهت وأصبحت جاهزة وعلى ما يرام . تقدم الرجل إلى فى ثبات وشكرنى بحرارة ، ثم قدم إلى كارتا شخصيا يحمل اسما ومنصبا ورقما هاتفيا ورجانى أن أتصل به على ذاك الرقم لأمر هام ، لأنه معجب بهمتى وإخلاصى . ولم يدم تفكيرى طويلا بشأن الكارت والرقم ، وأكدت لنفسى أن للرجل خدمة أخرى يريدها لنفسه أو لأحد من خاصته .

 

رد الرجل الوقور على الهاتف مرحبا ، ثم قال : لن أضيع وقتا وسأدخل فى الموضوع مباشرة يا بنى . لقد تقاعدت للتو من منصبى ، وقد قررت أن أفتتح مكتبا للمحاماة ليملء وقتى . وأنت تعلم ظروف من فى خبرتى ومكانتى . وقد توسمت فيك نباهة وسرعة وإخلاصا كبيرا ، وظننت أنك قد ترغب فى مساعدتى فى هذ المكتب وتدر على نفسك عمولة طيبة بجلب بعض الزبائن إلى مكتبى فى العنوان الواضح لديك . ولم أجد غضاضة فى ذلك العمل البسيط الذى قد يأتينى ببعض المال ، رغم ما قد يكون فى ذلك من مخالفة ، فالناس جميعها تسعى فى أكثر من وظيفة وعمل .

 

مرت أيام وأنا أفكر فى تلك الوظيفة التى هبطت على من السما وأبتسم لنفسى لعلى أفلح فى كسب بعض المال الإضافى بتلك العمولات التى تنتظرنى . واذ أعالج طلبا لرجل ريفى ، راح الرجل يثرثر ويحكى قصصا كثيرة لم أستبن منها – لانشغالى – سوى أن ابنه قد صدم شخصا بسيارة يعمل عليها سائقا ، وأن الريفى الطيب قد هبط القاهرة بحثا عن محام لابنه . فتوقفت عن العمل والتفت إلى محدثى مهنئا له بأنه قد عثر لابنه للتو على محام عظيم  . وتهلل الريفى وكاد يقبل قدمى من الفرحة راجيا أياى أن أصطحبه من فورى الى المحام العظيم .

 

ظهر الريفى الطيب فى موعده الذى ضربته له ومعه زوجته المحملة بأشياء كثيرة – كأنهما فى زيارة لحبيب - لنذهب إلى الاستاذ المحامى العظيم الذى صرت أعمل لحسابه . وما أن وصلنا إلى الفيلا الرابضة فى ذلك الحى الجديد ، حتى استقبلنا حارس ووجهنا إلى حجرة انتظار ريثما يهبط إلينا مضيفنا ، الذى دخل علينا بعد قليل مرتديا عباءة سوداء فخيمة ويحجل فى خيلاء وشموخ أبهرنا أنا ومرافقى البسيطين . اندفع الريفى وامرأته يقدمان كل ما كانا يحملان معهما من أشياء الى الأستاذ ويتوسلان اليه كى ينقذ ابنهما السجين من مستقبل مظلم بسبب الحادث الذى ارتكبه . وراح الأستاذ الكبير يطمئن مرافقى بكل الوسائل الى سهولة القضية بالنسبة إليه ، حتى اطمأنت ملامح الأبوين .

قال الأستاذ : المحاكمة فى محافظة أخرى ، ولكن لا بأس ، سأكون هناك فى الموعد - بنفسى – ان شاء الله . أما الأتعاب فثلاثون ألف جنيها فقط ، وأحتاج إلى نصفها حالا . ذهلت فى خاطرى من ذلك الرقم ورثيت للزوجين الريفيين ، ولكن الحياة صعبة . مد الريفى الطيب يده الى صديريته فأخرج منها لفافة ، ثم ناولها الى الأستاذ قائلا : هذه عشرون ألفا .

ظهر الأستاذ العظيم فى قاعة المحكمة فى تلك المدينة لصغيرة ، ثم طلب التأجيل للاطلاع ، وغادر القاعة فى دقائق معدودة وهو يطمئن موكله وزوجته بأن كل شىء تمام . وعندما حان الموعد التالى لجلسة المحاكمة ، لم يظهر الأستاذ الكبير أبدا ولم يرسل أحدا مكانه . ولم يظهر المحامى العظيم فى الموعد التالى الذى ضربه القاضى لجلسة تالية . ولم يظهر أبدا حضرة المحامى العظيم صاحب المنصب الكبير - سابقا – فى قاعة المحكمة مرة ثانية ، لتصدر المحكمة حكما بالسجن لسنوات طويلة على المتهم الذى لم يدافع عنه أحد .

 

لم يكن أحد أكثر منى غضبا ، حين اتصل بى الريفى الطيب وهو يبكى ويرفع صوته بالدعاء على وعلى الأستاذ العظيم الذى ابتلع المال وترك موكله لأمواج القانون تسحبه إلى قاع السجن ، فتركت عملى وقصدت بيت الأستاذ العظيم من فورى ، وأنا أستشيط غضبا وأتمنى لو سويت بهذا الاستاذ الارض ، لأنتقم لنفسى ولمن تسببت فى تعاستهم .

 

قال الأستاذ بثقة : لا شك أنك جئت تأخذ عمولتك . هذه هى عمولتك ، وما عليك سوى أن تأتينى بزبائن كثيرة متتالية لتحصل على عمولات كثيرة أيضا ، فلم أشعر الا ويدى تحرر سلاحى الميرى من مكمنه . فقد أهاننى الأستاذ المحامى صاحب المنصب الكبير السابق واستغفلنى واستغلنى ليأكل أموال أناس طيبين دون جهد أو حق ويترك ابنهم يلاقى مصيره المظلم ، بينما ينعم هو بمال الناس متظاهرا بالشرف والرفعة وهو يتشح بتلك العباءة الكاذبة . ولكن الأستاذ صرخ محذرا : أستطيع أن أضعك فى السجن الآن . لا تنس نفسك ! ولتأتنى بزبائن جديدة ، ولك العمولة .

لقد احتقرت نفسى لأننى لم أقتله . ولكن لى بيتا وأولادا ، وليس الذنب ذنبى . وليس العيب عيبى ، ولكن العيب عيب العباءة .  










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة