عاد الزعيم الوطنى محمد فريد، إلى منزله ليلًا يوم 24 مارس 1912، فأخبره «الجناينى» أن ضابط بوليس حضر لمقابلته، وحسب مذكراته المنشورة ضمن المجلد الثانى لـ«مواقف حاسمة فى تاريخ القومية العربية» تأليف «محمد صبيح»، فإن الضابط كان يحمل له جوابًا من رئيس نيابة مصر للتوجه إليه، يوم الاثنين «25 مارس»، لاستجوابه عما جاء فى خطابه السنوى الذى ألقاه أمام الجمعية العمومية للحزب الوطنى الذى يترأسه.
يؤكد «فريد»: «فى هذه اللحظة صممت على ترك مصر، ولكنى لم أخبر زوجتى، بل لما سألتنى عما يريده منى هذا الضابط، قلت لها إنه صاحبى ويريد استشارتى بصفتى محاميًا فى مسألة شخصية»، ويضيف: «فى صباح الاثنين، نزلت بالقطار من محطة الحلمية، حيث كنت ساكنًا، إلى محطة الزيتون، وذهبت إلى منزل الدكتور صادق رمضان، وأخبرته بالحادثة وبعزمى على السفر، فوافق، واتفقنا على الاجتماع بمنزل إسماعيل بك لبيب بالحلمية الجديدة بعد الاستجواب، ثم نزلت إلى العاصمة فوجدت محمود بك فهمى بانتظارى بمحطة كوبرى الليمون، أو بمحطة القبة لا أتذكر جيدًا، ووجدت بعض ضباط البوليس الطليان «الإيطاليين» بملابس ملكية يراقبون حركاتى، مع إنى عارفهم شخصيًا».
ذهب «فريد» إلى النيابة حسب الموعد المحدد، ويذكر عبد الرحمن الرافعى فى كتابه «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية» «دار المعارف- القاهرة»، أن النيابة استجوبته فى بعض فقرات وردت فى خطبته، واعتبرتها تحريضًا على كراهية الحكومة، وما إن علم كبار المحامين حتى هرعوا إلى النيابة ليقفوا إلى جانبه، ويذكر الرافعى: «كان جواب الزعيم على سؤال النيابة»: «إن معظم عبارات الخطبة تدل على أنها من قبيل انتقاد أعمال الحكومة، ولفت نظرها إلى ما يجب عمله، وهو أمر تنادى به يوميًا جميع الصحف»، ويؤكد «الرافعى»: «قوبلت إجراءات النيابة بالدهشة والاستغراب من الناس جميعًا، ذلك أن خطبته كانت خفيفة اللهجة، بالنسبة لخطبه السابقة، ولم يكن فيها شىء يستوجب أى مسؤولية، ولكن الاحتلال وصنائعه قد ساءهم أن يظل الفقيد حاملًا لواء الحركة الوطنية، وترامت الأنباء من المتصلين بالدوائر الوزارية أن الحكومة صممت على أن تدخله السجن كلما خرج منه، وانتهى التحقيق بإقامة الدعوى العمومية على فريد، بتهمة التحريض على كراهية الحكومة وبغضها».
يؤكد «الرافعى» أن أصدقاء «فريد» علموا أنه عند ابتداء التحقيق يوم 25 مارس، سيصدر أمرًا بالقبض عليه فورًا قبل انتهاء التحقيق، وطلبت الوزارة من على بك ماهر «الباشا والوزير فيما بعد»، الذى تولى التحقيق إصدار أمر بالقبض عليه، فرفض قائلًا إنه لا مسوغ لهذا الأمر، وأن الخطبة ليست فيها أية مسؤولية جنائية، فلم يرضِ الحكومة هذا الموقف المشرف، وقررت نقل التحقيق من يده، وعهدت به إلى على بك توفيق رئيس نيابة مصر، وكان الغرض من هذا التدخل أن يقبض على «فريد» فورًا.
استقر فريد وأصدقاؤه على رأى السفر لإحباط مؤامرة الاحتلال، وكان الوقت ضيقًا والظروف تقتضى الإسراع فى العمل، وبالاستعلام عن البواخر المسافرة تبين أن هناك الباخرة الروسية «الملكة أولجا» ستقوم من الإسكندرية قاصدة «بيريه» فالآستانة فى اليوم التالى 26 مارس «مثل هذا اليوم» 1912، فقرر السفر فيها، وكان الموقف الصعب الذى واجه فريد حسب مذكراته: «أخبرت زوجتى بالأمر سرًا، وطلبت منها أن لا تخبر الأولاد ولا أحد من العائلة، وأفهمتها ضرورة سفرى، وبما أن الجرائد ستأتى فى الصباح وبها تفصيلات استجوابى، فتحجزها حتى لا يطلع عليها الأولاد، وبما أنها سيدة عاقلة وفاهمة خطر مركزى فقبلت القضاء بالرضا وشجعتنى على السفر وتحمل المشاق».
يذكر«فريد»إجراءات السفر التى تمت سرًا، حيث نزل من منزله الساعة السادسة صباحًا، وسار نحو كيلو متر على الأقدام حتى ركب القطار من محطة الزيتون إلى محطة مصر ومنها إلى الإسكندرية، وكانت حجته لمن يراه أنه يقصدها للمرافعة فى قضية وسيعود فى المساء.
فى الإسكندرية، قصد الوابور الروسى الذى حجز فيه إسماعيل بك لبيب طبقًا للخطة، وصعد إلى الغرفة التى هو فيها، ويصف الوضع الذى كان عليه: «عند حضور مفتش الكرانتينة دخلت إلى محل الأدب واختفيت فيه نحو عشر دقائق، وخرجت لما نادانى إسماعيل لبيب وأخبرنى بانصرافه».
وصل فريد إلى الآستانة صباح يوم 31 مارس 1912، ولم يعد إلى مصر إلا جثمانًا فى يونيو 1920 رغم موته فى ألمانيا يوم 15 نوفمبر 1919، وكان موته ومجيئه دراما إنسانية كبيرة.