انتظم الآلاف من جميع الطبقات فى مظاهرة بالقاهرة أخذ منظموها إذنا بها من السلطة العسكرية، كان اليوم هو 17 مارس «مثل هذا اليوم» 1919، أى كان اليوم الثامن على انطلاق شرارة الثورة الشعبية ضد الاحتلال التى بدأت يوم 9 مارس، ويروى «عبدالرحمن فهمى» فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة» وقائع ما حدث فى هذا اليوم المعروف فى تاريخ ثورة 1919 بـ«يوم المظاهرة الكبرى»، مؤكدا أن آلافًا مؤلفة من جميع طبقات الأمة، صغيرها وكبيرها شاركوا فيها، وسار فيها علماء الأزهر والقضاة والمعلمون والمحامون والتجار وأرباب الأعمال وطلبة الأزهر والمدارس وطبقات الصناع، ولم يحدث فيها ما يخل بالنظام، ولم يعتد المتظاهرون على أحد.
وفى مذكراته «الأيام الحمراء» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة» يقدم الشيخ عبدالوهاب النجار وقائع هذا اليوم بالتفصيل، قائلًا: «إن طلبة الأزهر والمدارس قاموا مشتركين مع العمال بمظاهرة هائلة، ولم يكن لدى حكمدارية بوليس القاهرة علم بها، فأراد الحكمدار منعها، فأصر الطلبة على التظاهر، وبعد أخذ ورد ركب الحكمدار سيارته، وركب معه عدد من الطلاب وجندى برتبة شاويش، وسارت المظاهرة فطافت على شوارع عديدة حتى وصلت إلى منزل سعد زغلول باشا، ومرت فى تطوافها بدوار قناصل الدول، ولما حيوا قنصل إيطاليا أطل عليهم من منزله وحياهم».
يضيف «النجار»: «بعد أن مر الزعانف والصبية الذين يتقدمون المظاهرات عادة بدأ الموكب وأمامه علم أبيض به دائرة من القماش الأبيض، كتب عليها بخط جلى جميل كلمة «الاستقلال»، وتحتها سطر بخط فارسى جميل «مدرسة القضاء الشرعى»، وخلف العلم طلبة مدرسة القضاء وطلبة الأزهر، وبعد أن مر ألف وخمسمائة طالب إذا علم أحمر كتب عليه بالقماش الأبيض: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»، وخلفه بقية طلبة الأزهر، وبعد أن مر نحو ألف وخمسمائة طالب آخر إذا علم مصرى وخلفه طلبة المدارس، ثم علم آخر كتب عليه «العمال»، وبعد مرور كل طائفة كبيرة من الناس بعلم تتلوها طائفة أخرى، وهكذا، وجاء فى الآخر علم وراءه طائفة من طلبة المدارس، وبذلك انتهى الموكب وهو يشتمل على عدد من الطلاب والعمال وغيرهم يقدر بما بين ستة آلاف وثمانية آلاف، يهتفون جميعهم طائفة بعد طائفة: «ليحيا الاستقلال، ليحيا الوطن، لتحيا مصر الحرة، لتحيا الحرية، ليحيا سعد زغلول باشا، ليحيا نجيب غالى باشا، ليحيا الاتحاد، أحرار فى بلادنا كرماء لضيوفنا».
يواصل «النجار» شهادته عن قرب قائلاً: «كونت كل طائفة بوليسا منها مسلحا بالهراوى ينحى عن المتظاهرين من ليس منهم من الزعانف وحثالة الناس، ومعهم من يحمل القرب لسقيها من يظمأ منهم وقوم يحملون قلال الماء، والناس يخرجون إليهم بالماء لسقياهم، وبعض الناس يسقيهم الماء المحلى بالسكر، والسكان من كل صنف كالشوام المسيحيين، الأوروبيين والأقباط على طول طريقهم قد أطلوا رجالا ونساء وأطفالا من بيوتهم يحيونهم، ويحيون مصر واستقلالها وحريتها ورجالها وقادتها ويصفقون لهم، والمتظاهرون يجيبونهم بالتحية وإظهار العطف والإكرام، ولما انتهى الموكب إلى ملتقى الموسكى والسكة الجديدة فى شارع الخليج وقفت سيارة الحكمدار، قام طالب ممن كانوا معه وقال: «الحكمدار يقول لكم إنه مريض بالدوسنتاريا وتعب جدا فى هذا اليوم لأنه يشتغل من الساعة السادسة صباحا ولم يذق طعاما، ويجب أن تنفض المظاهرة اليوم وأن تريحوا أنفسكم غدا».
يصف «النجار» هذا الموكب بـ«الرهيب»، ويؤكد أنه لم يحدث فيه ما يعكر صفوه سوى أن شخصا من العمال كان يحمل علما تركيا وهو لا يفرق بين العلمين التركى والمصرى، فقصده عسكرى إنجليزى وأراده على نزعه فأبى، فصوب إليه مسدسه وأطلق منه طلقتين قتلتا شخصاً من أبناء التجار ببولاق وجرحتا آخر، وأخذ الجندى الإنجليزى العلم وكان ذلك فى شارع «بولاق»، ويذكر «عبدالرحمن فهمى» فى مذكراته، أنه فى هذا اليوم «17 مارس» حدث فى دمنهور أن قام الأهالى بمظاهرة كبرى فتعرض لها مدير البحيرة إبراهيم باشا حليم، وأهانهم بكلمات أثارت عواطفهم، فانقضوا عليه ضربا بنعالهم حتى كادوا يجهزون على حياته، وزادوا عليه بإحراق داره، وقامت مظاهرة فى الإسكندرية راح ضحيتها 4 قتلى و20 جريحاً من المتظاهرين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة