لم يكن لهذا التحقيق غرض سوى الاقتراب من أحد أهم صناع شخصية مصر الموسيقية فى العصر الحديث، احتفالا بذكرى مولده الـ115 فهو الذى استحق أن يوصف باسم «موسيقار الأجيال»، لا لأنه عمل مع جميع مطربى الأجيال العربية منذ بدايات القرن الماضى وحتى نهايته، بل لأن موسيقاه تناسب جميع الأجيال العربية منذ اليوم الأول الذى أمسك فيه بعوده الحانى حتى آخر الدهر، وقد اخترنا أن نقترب من روحه فى ذكرى ميلاده عن طريق تأمل أقرب الأشياء إليه وأحب الآلات إلى قلبه، فاقتربنا من أعواده المحفوظة فى متحفه ولم نكن نعرف أن للاقتراب فوائد عدة، ففى رحاب متحف محمد عبدالوهاب الملحق بمتحف الموسيقى العربية فى شارع رمسيس، كانت فى انتظارنا مفاجآت عديدة، كشف عنها عودان لموسيقار الأجيال، مازالا على حالهما من البريق والألق والإبهار، ومازالا ينتظران مزيدا من البحث والدراسة مع غيرهما من أعواد قديمة محفوظة بهذا المتحف العريق، منتظرة يد المتخصصين والعالمين لاكتشاف أسرار مهنة صناعة الآلات الموسيقية التى كانت من أكثر المهن تألقا فى العصر الملكى، ثم بدأت فى التراجع حتى وصلت إلى مرحلة نخشى عليها فيها من الزوال والانقراض.
صورة أقدم عود حديث بالعام 1839
قبل الذهاب إلى المتحف للاحتفال بالذكرى الـ115 لميلاد موسيقار الأجيال حاولت أن أبحث قليلا عن صناع أهم آلة ارتبطت ذهنيا بصورة محمد عبدالوهاب، وفوجئت أثناء بحثى بانتشار الكثير من الأقاويل التى تدعى العديد من المعلومات، ثم حاولت البحث عن أصول هذه المعلومات ومصادرها فلم أجد ما ينفيها أو ما يؤكدها، ولعل أشهر هذه الادعاءات هو ذلك الزعم بأن موسيقار الأجيال كان يفضل أعواد صانع العود العراقى «محمد فاضل»، بل يمكننا أن نقول إن «فاضل» اكتسب جزءا من شهرته نتيجة تردد الكثير من الأقاويل التى تقول إن موسيقار الأجيال كان يفضل أعواده، فهل هذا صحيح؟
- قبل أن ندخل فى مجال بحثنا يجب علينا أن نبرز ما لتأثير هذه الأقاويل من على الوسط الموسيقى، خاصة فيما يتعلق بمجال صناعة الأعواد التى تعد من أهم الصناعات الشرقية، فالعود من أكثر الآلات المعبرة عن الهوية الشرقية، كما أنه عماد التخت الشرقى، وهو الأساس لتطور العديد من الآلات الأخرى كاللوت والجيتار وهو الملازم الأول لجميع الملحنين والعازفين، وهو أبو الألحان الشرقية وأساس النهضة الموسيقية فى العالم العربى، وبهذا يصبح لبحثنا أبعاد تاريخية وفنية غير متوقعة.
صورة للعلامة التجارية لعود عبد الوهاب من الداخل
لابد هنا أن نؤكد أن صاحب معلومة أن عبدالوهاب كان يعزف على عود محمد فاضل هو «محمد فاضل» نفسه، فقد قال فى تسجيل مصور منتشر على موقع اليوتيوب، إن عود موسيقار الأجيال كان من صناعته، وفى ذات التسجيل اتهم «فاضل» جميع صناع الأعواد بضعف الإمكانيات، وقال ردا على سؤال المحاور حول الأعواد التركية: «صناعة العود العراقى أحسن من كل البلاد العربية، وفى تركيا يشتغلون، ولكن صوت مو زين لا يجيدون الصوت أبدا، لا هما ولا السوريين ولا المصريين» وفى ذات التسجيل قال إن محمد عبدالوهاب كان يعزف على عود من صناعته، وزاد البعض فى الأمر، كما ذكرنا، مدعين أن عود عبدالوهاب المحفوظ فى المتحف من صناعته، فهل هذا صحيح؟
عود موسيقار الأجيال
- هنا لابد أن أتوجه بالشكر والتحية لكل من الدكتورة إيناس عبدالدايم، رئيس دار الأوبرا المصرية التى يتبعها المعهد، والأستاذ محمود عفيفى، رئيس المعهد، وجميع العاملين بالمتحف والمعهد، على التعاون المثمر والترحاب الذى وجدته فى البحث الذى استغرق أكثر من يوم، وفيما يخص عود موسيقار الأجيال الموجود فى المتحف فقد أكد لى «عفيفى» أن المتحف يحتضن عودين من أعواد الموسيقار الكبير، أولهما العود المحفوظ فى فاترينة مستقلة، الذى يتميز بزخرفته اللافتة وشكله العربى المميز وقد كان عبدالوهاب يحب الظهور بهذا العود فى الحفلات والاستوديوهات، أما العود الثانى فهو العود الخاص به والذى كان يقضى معه معظم أوقاته، وكان شديد الحفاظ عليه مبالغا فى الحرص تجاهه، ولهذا تم وضع هذا العود فى غرفة زجاجية معزولة مع أقرب المتعلقات الشخصية لعبدالوهاب، وقبل أن أدخل فى كشف حقيقة أعواد عبدالوهاب وصناعها وشكلها وقياساتها يجب على أن أجيبك عن عدة أسئلة هى: لماذا تشككت فى أن يكون صانع الأعواد العراقى «محمد فاضل» قد صنع عود عبدالوهاب؟ ولماذا بحثت فى هذا الأمر؟
صورة نادرة لعبد الوهاب بعوده المحفوظ في المتحف
- الإجابة عن السؤال الأول تنبع من التساؤل أيضا، فحسب معلومات فإن للعود العراقى شكلا مميزا وصوتا مميزا أيضا، وفى الحقيقة أنا لم أر يوما صورة أو حفلة أو تسجيلا مصورا لعبدالوهاب ممسكًا بعود قريب الشبه من الأعواد العراقية التى كان يفضلها الموسيقار العراقى الكبير «منير بشير»، كما أن صوت العود العراقى يختلف كثيرا عن صوت العود الشرقى أو المصرى، فالعود المصرى والعود السورى أيضا يتميزان بفخامة الصوت ودفء النغمات، أما العود العراقى فيتميز بالحدة الكبيرة متشابها مع آلة اللوت الغربى، وفى الحقيقة أيضا فإننى لم أسمع يوما تسجيلا لعبدالوهاب وهو يعزف على عود بهذه المواصفات، فماذا وجدنا فى متحفه؟
عود موسيقار الأجيال
- فى صدر المتحف، كما ذكرنا، فاترينا كبيرة تضم كلا من العود الشهير، وعصا المايسترو، وبجوارها فاترينا أخرى تضم بعضا من ريش النسر الذى يستخدم فى صناعة ريشة العود، وللأسف فقد ذهبت كل محاولات استكشاف اسم صانع العود من وراء الفاترينه سدى، أما أقرب الأعواد إلى «عبدالوهاب» والمحفوظ فى الغرفة الزجاجية فقد كانت المهمة أسهل، ولاكتشاف اسم صانع العود المزخرف لعبدالوهاب كان لابد لنا أن نفتح الفاترينا لنرى اسم الصانع المثبت فى ورقة مطبوعة فى قلب العود أسفل الشمسية المزخرفة التى يعبر منها الصوت، وأشكر إدارة الأوبرا والمعهد والمتحف على ما بذلوه من تعاون، فقد أمر «عفيفى» بأن نفتح الفاترينا المخصصة لحفظ العود مع لجنة مشكلة من موظفى المتحف وأمناء العهدة لتذليل كل العقبات من أجل هذا البحث، وهنا نكشف لأول مرة اسم صانع أحد أعواد عبدالوهاب الحقيقى، الذى لا يقبل الشك ولا الادعاء.
البداية كانت مع العود الأحب إلى قلب موسيقار الأجيال والأقدم تاريخيا والأكثر التصاقا به طوال مشواره الفنى منذ بدايته وحتى آخر يوم فى حياته، حيث حفظ المتحف هذا العود فى غرفة زجاجية شبيهة بغرفة نوم محمد عبدالوهاب بجوار البيانو الخاص وعلى الكرسى الذى توفاه الله عليه، وفى الحقيقة فإنى لم أر أجمل من هذا العود ولا أكثر منه إتقانا، فقد أجاد صانع هذا العود فى كل تفصيلة صغيرة فيه، فالعود مصنوع من خشب الأبانوس ومع هذا فقد تميز بخفة وزنه بطريقة مدهشة، ما يدل على أن صانعه بذل مجهودا كبيرا فى نحت أضلاعه بحرفية كبيرة دون أن يؤثر على متانتها فبقيت ما يقرب من مائة عام على حالها، ولم يكتف بهذا بل طعم العود بالخشب المذهب بخلاف تطعيم رقبة العود بالعاج الأبيض بأشكال زخرفية عالية الإتقان أما فى وجه العود فقد زينه بالزخارف النباتية أيضا من مادة العاج، بالإضافة إلى صنع الحواف والقلب من «ظهر السلحفاة» واضعا رمز الهلال والنجمة على وجه العود والتاج أعلى الشمسية، ونفس الأمر نجده فى رقبة العود من ناحية الوجه، والتى تحمل اسم الصانع بخط عربى فصيح.
عود موسيقار الأجيال
«حنفى» هذا هو اسم صانع العود الأحب إلى قلب موسيقار الأجيال الذى التصق به منذ العهد الملكى وحتى يوم وفاته، وحنفى هذا هو حنفى الكيال الذى يحمل عود آخر محفوظ فى المتحف أيضا اسمه كاملا بذات الطريقة وذات المكان الموضوع فيه اسمه وتقريبا نفس الزخارف، ومن الواضح من صناعة العود المتقنة ووضع التاج الملكى بهذه الطريقة أن هذا الصانع المصرى كان من أشهر صناع العود، لدرجة أن متحف معهد الموسيقى العربية يحتفظ له بعودين من أعواده النادرة، ومن الواضح أيضا أن «حنفى» هذا صنع العود خصيصا لعبدالوهاب بدليل إتقانه الكبير وتطعيمه النادر ووضع التاج الملكى عليه، وقد ورد فى كتاب الرائد الموسيقى «كامل الخلعى» ذكرا لصانع عود اسمه «حنفى»، أيضا غير أنه من المستبعد أن يكون حنفى هذا هو حنفى الكيال، لأن «الخلعى» الذى كتب كتابه فى 1904 قال «إن أحسن نجار لصناعة الأعواد والقوانين بعد وفاة المعلم «حنفى الشهير» هو رفلة الرازى» وتدل طريقة الصناعة ووضع التاج الملكى على العود أنه صنع أثناء العصر الملكى، ومعروف أن مصر فى 1904 كانت خديوية وليست «مملكة» ما يدل على أن هناك صانع أعواد آخر كان على درجة عالية من الشهرة اسمه حنفى، وفى الغالب هو «حنفى محمد» الذى يبدو أنه ورَّث المهنة لأحد أبنائه فاستمر بالعمل فى ذات العمل حتى الستينيات على ألأقل.
ثانى أعواد موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب محفوظ فى أحد فتارين العرض بقاعته المتحفية، وهو على درجة كبيرة من الإتقان من ناحية الشكل والزخارف، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عبدالوهاب كان يحب الظهور بهذا العود، وفى داخل العود العلامة التجارية لأحد صناع الأعواد السوريين الذى يدعى «على خليفة» وقد صنعه فى عام 1962 وهى معلومة ربما تكون غائبة عن الجميع وربما تكون هذه هى المرة الأولى التى يتم الكشف عنها.
عود موسيقار الأجيال
الجدير بالذكر هنا أن هذا الكشف الذى يعلن أسماء صناع أعواد موسيقار الأجيال ربما لأول مرة، لا يجزم بأن «عبدالوهاب» لم يمتلك أحد أعواد «محمد فاضل»، لكنه يجزم بأنه لم يكن يفضله أو يستعمله، وربما أهدى إليه «فاضل» أحد أعواده ليحظى بشرف امتلاك موسيقار الأجيال عوده، لكن اللافت للنظر أيضا أن متحف الموسيقى العربية الذى يحتفظ بأهم الآلات الموسيقة لعصر نهضة الموسيقى فى القرن العشرين خال تماما من أى ذكر لصناع أعواد «عراقيين»، وكل ما هو موجود به صناعة مصرية أو سورية أو تركية ويصل عمر بعضها إلى أواخر القرن التاسع عشر.
هل توقفت المفاجآت بعد؟
- الإجابة هى لا، ففى سبيل البحث عن أعواد محمد عبدالوهاب وأسماء صناعها فوجئت بالعديد من المعلومات غير الدقيقة عن صناعة آلة العود وتطورها، فمعروف أن آلة العود آلة شرقية بامتياز، وهناك اختلاف كبير بين الباحثين حول نشأة العود ما بين الأصول المصرية أو السورية أو العراقية، لكنه من المعروف أن العود كان ذا أربعة أوتار فحسب، وأضاف إليه زرياب وترًا خامسًا، لكن تطور العود حتى وصوله إلى سبعة أوتار أمر غير مرصود تاريخيًّا، ولهذا نشأ العديد من الأقاويل أو الادعاءات حول تطور العود، ومن أشهرها أن الفنان فريد الأطرش هو من أضاف الوتر السادس إلى العود، وأن الفنان الفلسطينى الذى أقام فى العراق «روحى خماش» هو من أضاف الوتر السابع إليه، وتكفى زيارة واحدة إلى متحف الموسيقى العربية بالقاهرة لتتأكد من زيف هذه الادعاءات، فعود عبدالوهاب الذى صنعه «حنفى الكيال» فى عشرينيات القرن الماضى من ذوى الأوتار السبعة، وبحسب مجلة «مجمع الموسيقى العربية فإن «روحى خماش» ولد 1923 فى مدينة نابلس الفلسطينية، وفى مدينة القدس عام 1932 جاء الفنان محمد عبدالوهاب إلى فلسطين واستمع لغناء الطفل «روحى» وأعجب به، ثم قدم إلى القاهرة ليتعلم أصول الموسيقى فى معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية عام 1938، ولما أتم دراسته رحل إلى فلسطين فأصبح رئيسا لفرقة الإذاعة، وفى عام 1948 سافر إلى العراق وهناك أسهم فى عمل نهضة موسيقية كبيرة ليلقب بعد ذلك باسم «الأب الروحى للموسيقى العراقية» حيث علم الكثير من الموسيقيين العراقيين أصول العزف وتقنياته ومن بين هؤلاء العازف الكبير «منير بشير وجميل بشير وغانم حداد.
عود موسيقار الأجيال
من الاستعراض السابق يتبين لنا أن عبدالوهاب كان يعزف على عود سباعى الأوتار، بينما كان الفنان الفلسطينى العراقى «خماش» مازال طفلا، وأن خماش حينما أتى إلى مصر اشترى منها عودا سباعيا، وسافر به إلى العراق فظن الموسيقيون العراقيون أن خماش هو من أضاف الوتر السابع ، وعلى كل الأحوال فعود عبدالوهاب ليس أول عود يحمل أوتارا سبعة، إذ يقول لنا موقع «متحف بروكسل» إن أقدم عود فى التاريخ بشكله الحديث صناعة مصرية «سكندرية» وصل إلى بلجيكا فى العام 1839 على يد فرنسوا جوزيف، مدير معهد الكونسرفتوار، وقد كان هذا العود سباعيًّا أيضًا.
عدد الردود 0
بواسطة:
عمر محمد فاضل
للمعلومات
رد على ما كتب ان الموسيقار محمد عبد الوهاب استعمل عود محمد فاضل عام 1959 وقد اوصله له فنان مصري عازف اكورديون في الاذاعة العراقية الى مصر وبناء على طلب الموسيقار في حينها