على طريق المسيح.. ممرات العبور إلى الحياة بالإسماعيلية.. نرصد حكايات المنتقلين من العريش هربا من الإرهاب.. الكنائس تفتح أبوابها والمسلمون يسابقون لإغاثة الأقباط.. و"نبيلة" تروى لحظات اغتيال زوجها ونجلها

السبت، 25 فبراير 2017 05:23 م
على طريق المسيح.. ممرات العبور إلى الحياة بالإسماعيلية.. نرصد حكايات المنتقلين من العريش هربا من الإرهاب.. الكنائس تفتح أبوابها والمسلمون يسابقون لإغاثة الأقباط.. و"نبيلة" تروى لحظات اغتيال زوجها ونجلها ممرات العبور إلى الحياة بالإسماعيلية
الإسماعيلية - سارة علام - وتصوير: ماهر إسكندر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 

كان المقدس قدرى فارس يجر قدميه الحافيين ممسكًا بحقيبة بلاستيكية كبيرة جمع فيها ما استطاع من ملابس شتوية، ويدخل بها إلى نزل الشباب الإسماعيلية، قادمًا من العريش التى ترك فيها بيته وأهله، لكنه أخذ الخوف معه كصديق وحيد لرحلة جديدة بدأت منذ تركه بيته السيناوى الصغير، حتى وصوله إلى الإسماعيلية التى لا يعرف كيف سيقضى فيها أيامه ومتى يذهب ومتى يعود أو لا يعود.

 

اقباط العريش (1)

المقدس قدرى الذى يبلغ من العمر 66 عامًا أقام فى العريش منذ عام 76، حتى صارت عبئَا ثقيلًا، فصار يحمل هَم شيخوخته، جاء إلى الإسماعيلية هربًا من بطش الإرهاب الذى فى سيناء وصار يقتل الجميع دون تفرقة بين مسلم ومسيحى، وقرروا جميعًا الفرار بأرواحهم من رصاص الغدر.

 

اقباط العريش (2)

بجلباب أبيض، وعباءة صوفية صعيدية ثقيلة، وصوت مفزوع، جلس قدرى ليحكى قصة تفرق شمل أسرته الكبيرة، فأبناؤه العشرة وجميعهم تزوجوا، منهم من انتقل إلى القاهرة، ومنهم من لحق به إلى الإسماعيلية، وبعضهم ما زال عالقًا فى العريش ينتظر فرصة الفرار، فى حين ذهب نجله الأوسط إلى الغردقة مع أسرته يبحث عن سكن وعمل فقصد الكنيسة أيضًا.

 

اقباط العريش (5)

"بيوتنا اتخربت ومش عارفين نعيش، عيال كلهم أرزقية على الله، كنا بنشتغل اليوم بيومه، بس خلاص مبجاش فيه شغل ولا عاد فيه حياة"، يقول قدرى ويغالب دموعه وهو يصف كمائن الإرهاب التى تستوقف المارة ليلًا وتقتلهم، الأمر الذى دفعه لتقسيم عائلته إلى دفعات، كما نصحهم الجيران، فلا يمكن المخاطرة بالعائلة كلها فى سيارة واحدة، يضيف "جيت أنا ومرتى وتلاتة من عيالى وعيالهم، وسيبت اتنين ولادى وعيالهم هناك ومش عارفين هيجوا امتى ولا يروحوا فين".

 

اقباط العريش (11)

"اتبهدلنا وسيبنا بيوتنا، أنا قلقان على بنتى وجوزها"، يقول قدرى الذى يؤكد أن ابنته قررت البقاء مع زوجها الذى يمتلك سوبر ماركت صغير، لحين تدبير مصاريف الانتقال من العريش، مؤكدًا أن نجليه الآخرين جاءا معه إلى هنا فمنحتهم الكنيسة شقة فى حى المستقبل.

 

اقباط العريش (12)

فى الساعات الأولى من صباح اليوم، كان خدام وشمامسة ومتطوعو الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية يصلون الليل بالنهار، لاستقبال مزيد من النازحين، ساحة الكنيسة تحولت إلى ما يشبه معرضًا للأثاث، استقبلت فيه تبرعات من كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية، وكذلك بعض من تبرعات الأفراد والأسر وباقى الطوائف المسيحية والمسلمين، مثلما يقول نبيل شكر الله شماس الكنيسة المكلف بتدبير احتياجات النازحين إليها.

اقباط العريش (18)

"نبيل شكر الله"، يعمل مسئولًا إداريًا بالكنيسة الإنجيلية، التى اتفقت باقى الطوائف المسيحية على تخصيص ساحتها الواسعة لاستقبال المنتقلين على أن تتولى فرق الإعاشة تسكينهم ومراعاة احتياجاتهم المادية والطبية والروحية، بالتواصل مع الإدارة المحلية والسلطات التنفيذية، عبر غرفة عمليات منظمة تم تشكيلها منذ صباح الجمعة مع بدء استقبال أولى أسر الأقباط.

اقباط العريش (3)

تقطع طبيبة محجبة متطوعة من أهالى الإسماعيلية حديث نبيل، وتؤكد على استعدادها التام للإشراف الطبى على المرضى والمسنين ورعايتهم الصحية وتوفير الأدوية لهم بالتعاون مع زملائها الصيادلة، فيطمأنها نبيل ويؤكد لها أن طبيبة الكنيسة تتولى المسألة ويمكنها التنسيق معها.

اقباط العريش (9)

"استقبلنا 30 أسرة منذ أمس، ووزعنا 19 منهم على شقق بمساكن المستقبل، و11 آخرين على بيت الشباب التابع لوزارة الشباب والرياضة" يقول نبيل، ويواصل: عبر التبرعات التى وصلتنا تمكنا من تجهيز الشقق التى استأجرنا بعضها خاليًا وبعضها مفروشًا، والأهالى متعاونون معنا منذ أمس حتى أن ثلاث تجار مسلمين جاءوا من القاهرة بسيارات محملة بالأثاث والمواد الغذائية والبطاطين.

اقباط العريش (4)

"الأسر دخلت الإسماعيلية من نفس البوابة التى دخل منها المسيح حين جاء لاجئًا مع أمه العذراء إلى مصر" يقول نبيل شماس الكنيسة، ويؤكد أن المسيح دخل من فلسطين عبر منطقة الفرما بالعريش، وعبر بوابة مر بها هؤلاء المنتقلون، لذلك ستحل البركة عليهم، وسيترأف الله بهم.

اقباط العريش (20)

على يسار نبيل، فى ساحة الكنيسة كانت "مارى إسكندر" تتعكز على عكازها وتسير بساق مصابة وسط الكنيسة وتدون احتياجات النازحين، وتجمع لهم التبرعات، تقول مارى التى تبلغ من العمر 61 عامًا، إنها ومنذ الأمس تطوعت لخدمة النازحين وتواصلت مع كافة الكنائس التى تخدم فيها لهذا الغرض، حتى أن رقم هاتفها صار منتشرًا على كافة مواقع التواصل الاجتماعى لتجمع التبرعات المادية للنازحين، على يمنيها كان فريق من شباب الإسماعيلية المسلمين قد نظموا صفوفهم وانضموا لفرق الإعاشة الكنسية.

 

اقباط العريش (8)

وسط العمل على سد احتياجات منتقلى الأمس، وصلت سيارة تحمل لوحات شمال سيناء، ووقفت أمام باب الكنيسة، ونزل منها شاب فى منتصف الثلاثينات من عمره مع أطفاله الثلاثة وزوجته، رامى مكرم وأسرته ينضمون لقائمة المهجرين، حيث جاء ليبيت لدى أصدقاء له من تجار الإسماعيلية جيث كان يمتلك متجرًا للهواتف المحمولة بالعريش.

 

اقباط العريش (10)

"فضلت أن أقيم بمنزل أصدقائي، لأوفر مكان أخر لأسرة ليس لديها سكن بعدما هربت بأولادى الثلاثة الصغار وزوجتى"، يؤكد رامى أن طفله الذى يبلغ من العمر ثلاث سنوات اعتاد سماع صوت الرصاص والتفجيرات حتى ظن إنها صوتًا طبيعيًا كصوت الهواء، إلا أن يوسف نجله الأكبر الذى يبلغ من العمر 6 سنوات، صار خائفًا ومرتعدًا بعدما انتقل إليه الخوف من والدته، فقرر الرحيل عن العريش وترك منزله ومحله وكل ما يملك هناك.

 

اقباط العريش (13)

يستطرد: "منذ ثلاث سنوات نعيش أيامًا صعبة فى العريش، ولكن الأسبوع الأخير كان كارثى بكل المقاييس، نسمع كل ليلة عن مقتل قبطى نعرفه فكلنا أشقاء فى كنيسة واحدة، حتى استيقظت صباح الجمعة وقد عزمت على الرحيل مهما كانت الخسائر، رغم إننى من مواليد العريش وليس لدى بلاد أخرى، فوالدى موظفان بالجهاز الحكومى هناك".

 

اقباط العريش (14)

على بعد 3 كيلو متر، من الكنيسة، يستقبل نزل الشباب التابع لوزارة الشباب والرياضة عشرات الأسر النازحة من العريش إلى الإسماعيلية، وفى حديقة واسعة مطلة على البحر، استيقظ الأهالى بعد ليلة غائمة، وقلقة على مستقبل غامض، وجلسوا يتناولون إفطارهم دون شهية.

بملابس سوداء وجسد هزيل، وعينين مهتزين من أثر الصدمة، كانت نبيلة فوزى التى رأت بعينيها مصرع زوجها وولدها وحريق منزلها، تجلس على مقعد مع ابنتها الناجية الوحيدة من العائلة، يتبادلان المواساة بعدما خرجا حافيين من بيتهما.

بتماسك كبير أقرب إلى عدم التصديق، جلست نبيلة التى تبلغ من العمر 66 عامًـا، تروى ليلة الموت التى ودعت فيها ولدها وزوجها، فقالت إنها سمعت فى الواحدة صباحًا صوت طرق على الباب حين كانت تستعد للنوم إلى جوار زوجها سعد حكيم الذى فقد سمعه من أثر الشيخوخة، فسارع نجلها مدحت لفتح الباب ليجد أمامه ملثمين، يمسكان بورقة تضم أسماء الأقباط فسألوه عن اسمه فأجاب، حينها عاجلوه برصاصة فى رقبته وأخرى فى صدره وسقط صريعًا على الأرض.

على صوت الرصاص، تركت غرفتى وهرعت إلى الصالة، فوجدت ابنى غارقًا فى دمائه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبينما كان زوجى يحاول القيام من فراشه، دخل الملثمان إلى غرفته وأطلقوا عليه رصاصتين الأولى فى الرأس والثانية فى الصدر، وهو يصرخ "أنا غلبان وفى حالى"، تقول نبيلة "أما أنا فأقتادونى خارج المنزل وسألونى عن الذهب أو النقود، فقلت لهم لا أملك شيئًا، حتى رأوا دبلة زواجى فى يدى فسحبوها بعنف"، تقول نبيلة وهى تشير إلى جرح فى إصبعها، وتؤكد أخرجونى من المنزل، واستولوا على كافة الأثاث والأجهزة الكهربائية ثم أشعلوا النار فيه، ورأيت النار تلتهم جسد ابنى حتى وصلت إلى شعر رأسه وأنا أصرخ فى الشارع تضيف وهى تنظر إلى السماء.

اقباط العريش (6)

وتقول "جاء شباب من المسلمين فى المنطقة وأطفئوا النار معى بعدما فتحوا خراطيم خزان المنزل وطلبوا لى الشرطة، التى سألتنى عن أوصاف الملثمين الذين يتحدثون اللهجة البدوية ويبدو إنهم معروفون لديهم"، تؤكد نبيلة، وتضيف: نصحونى كثيرًا بترك العريش ولم أسمع نصيحة أحد حتى أن مدحت ابنى كان يتمنى الشهادة التى نالها أخيرًا وذهب إلى فردوس النعيم حيث الراحة الأبدية".

اقباط العريش (7)

"أطالب الرئيس السيسى أن يوفر لى شقة أقضى فيها بقية أيامى، فبيتى احترق وزوجى قتل وليس لدى سوى ابنتى وزوجها شاركونى الهرب إلى هنا"، تختتم نبيلة كلامها.

 

اقباط العريش (17)

أما "أم أسامة" فهى زوجة شهيد رفضت الافصاح عن اسمه خشية استهدافها، تقول إن زوجها استشهد فى التاسع من يناير الماضى برصاص الإرهابيين، بعدما خرج من منزله بدقيقة واحدة وأمام عينيها، "طول عمرى شايلة الهم، زوجى حارب فى 1973 وفى حرب اليمن تركنى ستة أشهر كاملة وطول عمره فى الجيش وبيخدم وبيحب البلد، وميستاهلش اللى حصله أبدًا"، تقول للقس الذى جلس يباركها ويصلى لها وهو يضع يده على رأسها.

"خرجت من العريش وجئت إلى هنا ومعى ظريف نجلى الحاصل على بكالوريوس زراعة ويعمل عاملًا بمصنع بمرتب ضئيل لا يكفى أسرته"، أما نجلى الأخر فهو حاصل على بكالوريوس تجارة أيضًا ولا يعمل ونسكن فى العريش منذ ثلاث سنوات، احنا غلبانين واتبهدلنا كتير"، يواسيها القس ويقول "ربنا موجود، اصبرى يا أمى أنتِ زى الجبل وتحملتى كتير" وبينما تتلقى المواساة والتعزيات، يأتى نجلها ليخبرها بوصول موظفى وزارة التضامن الاجتماعى وعليها أن تملأ استمارة لتحصل على معاش زوجة الشهيد.

 

اقباط العريش (15)

على مقعد مجاور، كان ظريف جرجس الذى يعمل سائقًا للتاكسى ويبلغ من العمر 54 عاما قد جلس جوار زوجته، التى اتهمها بالتسبب فى نزوحه إلى الإسماعيلية، رغم أنه يرغب فى البقاء هناك، فليس لديه قوت يومه هنا وهو يعمل سائق بالأجرة، حتى أن الأمن أوقف سيارته عدة مرات على الطريق فمن غير المسموح له أن يسافر عبر المحافظات.

 

اقباط العريش (16)

نستعد لاستقبال ثلاثين أسرة أبلغونا بحضورهم اليوم إلى الكنيسة على أن نعمل على تسكينهم، يؤكد نبيل مكرم، وهو يحاول أن يهدأ من روع أحد الأفراد الذى هب صائحًا، "سبونا فى حالنا، احنا تعبانين وسايبين بيوتنا وفلوسنا مش عايزين حد يتكلم معانا"، وهو يشير إلى وسائل الإعلام التى ملأت ساحة الكنيسة.

اقباط العريش (19)

فى حين، واصل عمال الكنيسة فتح مبانيها وقاعاتها وغرفها، وبدأوا فى تجهيزها بالأثاث والبطاطين استعدادًا لاستقبال الأسر الأخرى التى أبلغت عن حضورها اليوم، وما زالت تعبر حواجز الموت فى سيناء إلى ممرات الحياة المؤقتة فى الإسماعيلية.

 

 
 
 
اقباط العريش (21)
 
 
اقباط العريش (22)
 
 
اقباط العريش (23)
 
 
اقباط العريش (24)
 
 
اقباط العريش (25)
 
 
اقباط العريش (26)
 
 
اقباط العريش (27)
 
 
اقباط العريش (28)
 
 
اقباط العريش (29)
 
 
اقباط العريش (30)
 
 
اقباط العريش (31)
 
 
اقباط العريش (32)
 
 
اقباط العريش (33)
 
 
اقباط العريش (34)
 
 
اقباط العريش (35)
 
 
اقباط العريش (36)
 

 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة