محمد شومان

أستاذى مختار التهامى.. رحمة الله عليه

السبت، 09 ديسمبر 2017 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رحل عن عالمنا فى هدوء وشموخ أستاذ الصحافة والرأى العام المرموق مختار التهامى، لم يتصدر خبر وفاته الصحف ووسائل الإعلام، رغم أن كثيرًا من كبار العاملين فيها هم من تلامذته فى كلية الإعلام التى أسسها وعمل فيها أستاذًا وعميدًا لسنوات طويلة، كان العالم الجليل يعمل فى الستينات أستاذًا فى قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة، قبل أن يتحول إلى كلية مستقلة للإعلام، كانت أول وأهم كلية للإعلام فى مصر والعالم العربى.
 
لا أكتب اليوم رثاءً للفقيد، فأنا لا أجيد الكتابه عن من أحب، سواء كانوا من الأحياء أو الموتى، وعندما يرحل عن عالمنا شخص ممن أحبهم تنتابنى مشاعر حزن وألم ممزوجة بقدر غريب من الإنكار!!، وبالتالى لا أستطيع أن أكتب، وحتى إن كتبت تكتمل المأساة!!.. تأتى كتابتى بائسة وفقيرة، وأقل بكثير من حقيقة مشاعرى، ومما كنت أحاول أن أسجله. وقد صادفت بؤس الكتابة فى مرات عديدة.. كان آخرها عندما رحل صديقى القصاص والروائى المبدع يوسف أبو رية.. وطلب منى الصديق والكاتب الكبير عبدالله السناوى- وكان وقتها رئيسًا لتحرير العربى الناصرى- أن أكتب عن علاقتى بأبو رية.. واعتذرت.. لكن السناوى ألح.. وكتبت ويا لسوء وفقر ما كتبته. من يومها وأنا أحاول دائمًا الابتعاد أو الهرب من الكتابة عن صديق أو أستاذ لى رحل عن عالمنا.. لم أتمكن من كتابه مقال عن صديقى الكاتب الصحفى عادل الجوجرى الذى فاجأنا كعادته بموت سريع وصادم، وفشلت أيضًا فى الكتابة عن د. فاروق أبو زيد عميد كليه الإعلام وأستاذى الذى تعلمت منه الكثير.
 
هربت من نفسى قرابة الأسبوعين حتى لا أكتب عن أستاذى مختار التهامى الذى أشرف على فى إعداد رسالتى للدكتوراه، واقتربت منه إنسانيًا وعلميًا، وتعلمت منه الكثير، لكن بعض الأصدقاء عاتبونى وطلبوا منى أن أكتب، وها أنا أكتب، ولكن ليعذرنى هؤلاء الأصدقاء، وأسرة الفقيد عن أى بؤس أو تقصير فيما كتبته، فمن الصعب أن أكتب عن حياته وخصاله أو مسيرته المهنية فى التدريس والبحث العلمى، فالراحل كان عالمًا جادًا ومخلصًا لوطنه وعلمه وعروبته بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد وتحديات، وبالتالى زهد فى مُتع الحياة أو البحث عن السلطة والمال، أو الظهور الإعلامى.
 
وهب حياته وعلمه لخدمة الوطن والدعوة للعدالة الاجتماعية والسلام العالمى، فكان أقرب إلى الفكر الاشتراكى الملتزم بقيم الوطنية والإسلام، وكان أحد دعاة التعايش بين الشعوب والحضارات، وضد خطابات الكراهية والحروب فى العالم. وكانت هذه القيم والمثل العليا تحركه وتؤطر كتاباته منذ كتابه الأول «الصحافة والسلام العالمى» فى مطلع الستينيات، وكتابه «الرأى العام والحرب النفسية» عام 1967، ثم بحوثه الأخرى عن الرأى العام وفضح عمليات تضليل الرأى العام والتلاعب به.
 
ولاشك أن هذه الكتابات المبكرة تؤكد أن د. التهامى هو مؤسس دراسات الرأى العام فى مصر والعالم العربى، كما أنه أيضًا مؤسس المدرسة النقدية فى الإعلام فى مصر، حيث حلل مبكرًا آليات استخدام الإعلام والدعاية فى الحرب النفسية والتضليل الإعلامى. ونبه إلى خطورة هيمنة الدولة أو رجال الأعمال على الفضاء الإعلامى، وقد اعتمد مدخلاً مهمًا لتعريف الرأى العام تأثر فيه بلا شك بالمدرسة النقدية فى العالم، حيث يرى أن الرأى العام هو رأى الأغلبية الواعية، وليس الأغلبية العددية فى المجتمع.
 
لم يُدَرّس لى د. التهامى خلال سنوات دراستى فى كلية الإعلام، لأنه كان مُعارًا لجامعة اليرموك، حيث ساهم فى تأسيس الدراسات الإعلامية هناك، وعندما عاد إلى مصر كنت قد تخرجت وبدأت فى إعداد رسالة الماجستير تحت إشراف أستاذى فاروق أبو زيد الذى تتلمذ على يد د. مختار التهامى، فكان أن عرفنى بأستاذه، ودعاه لمناقشة رسالتى للماجستير عن تطور الفكر القومى العربى فى الصحافة المصرية، ولأن د. فاروق أبو زيد كان مُعارًا للعمل فى السعودية فقد رشحنى لتسجيل رسالة الدكتوراه مع د. محتار التهامى، الذى اشترط أن أسجل معه فى مجال الرأى العام، مبررًا ذلك بندرة المتخصصين فى الإعلام والرأى العام، وأننى أصلح فى هذا التخصص الصعب، وقال مازحًا- ومازلت أذكر كلماته- «لو اشتغلت بجد فى الإعلام والرأى العام لن تأكل عيش.. فهل أنت مستعد». وقتها شعرت بأن أستاذى يبالغ.. لكن مع الأيام والسنين اكتشفت صحة كلامه وتحذيره، لذلك توقفت من سنوات عن الكتابة فى مجال الرأى العام حتى لا أدخل فى مشاكل مع الحكومات التى عرفتها مصر خلال الثلاثين سنه الأخيرة، وحتى أستطيع أن «آكل عيش»!!.
أما النصيحة الثانية والتى التزمت بها فهى أن أختار تلامذتى الذين سأشرف عليهم فى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه، كان د. التهامى يقول إن الأستاذ ليس بكثرة عدد تلامذته، وإنما بنوعيتهم، ومن الصعب أن تجد طالبًا أو طالبة جادة، وهو قول صادق تؤكده الأيام، لكن الأهم أنه من الصعب أيضًا أن تجد أستاذًا جادًا ومخلصًا يشرف على طلابه كما كان د. مختار التهامى، فالرجل كان يتابعنى فى كتابة فصول رسالتى بالنصح والإرشاد واقتراح المراجع، وعندما انتهى من كتابه أحد الفصول، يقرأه.. ثم يدعونى إلى بيته أو مكان عام لنجلس معًا.. ويطلب منى أن أقرأ هذا الفصل بصوت عال.. ثم يناقشنى فى أغلب ما يستمع إليه.. وفى نهاية قراءة الفصل يأخذه ويعيد قراءته.. ويكتب للمرة الثانية ملاحظات عليه.. ثم يطلب منى تعديلات مهمة.. ثم نلتقى بعدها لكى أقرأ عليه الفصل مرة ثانية بعد التعديلات.. يا للروعة.. هكذا كان أسلوب د. مختار التهامى فى الإشراف علىّ وتعليمى، وهو أسلوب اختفى للأسف من حياتنا الأكاديمية.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة