بعد ما دخلت مصر، أو دخل فى مصر، عصر الانفتاح، أصبح كل شىء مباحا، وكل شىء متاحا، عدو الأمس (أمريكا وإسرائيل) صار صديق اليوم، وصديق الأمس (الاتحاد السوفيتى والعرب) صار العدو، تجار المخدرات أصبحوا أعضاء برلمان، واللصوص هم التجار، وهاجر معظم المثقفين إلى منافى اختيارية بالسفر للخارج، أو منافى إجبارية بالمنع من الكتابة والتضييق الأمنى.
مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، تحولت السياحة العربية من بيروت إلى القاهرة، فوجدت مصر نفسها بين ليلة وضحاها مطالبة بأن تنحى تاريخها وثقافتها وريادتها كى تكسب رزقها من القادمين الجدد الذين جاءوا محملين بزكائب الأموال، وكأنهم الملوك يدخلون القرية كى يفسدوها.
كان التناقض حادًا وقاسيًا بين مصر الرائدة والقائدة ومصر التابعة والمُقادة، ففى عصر "الرئيس المؤمن" تم افتتاح أكبر عدد من الملاهى الليلية فى مصر، وفى ظل شعار "أخلاق القرية" تحولت أحياء بكاملها إلى شقق مفروشة (من مجاميعه).
وبما أن الملك يحتاج دائمًا إلى مهرج يسليه ويرفه عنه، وبما أنه وفد علينا عدة ملوك، احتاجت المرحلة إلى عدة مهرجين، وسرعان ما ظهر هؤلاء المهرجون ليس فى القصور أو الأسواق أو الحانات وإنما على خشبات المسارح، وفجأة غصت مصر بستة عشر عرضًا للقطاع الخاص فى عام 75/ 76 – بعد أن كانت أربعة فقط فى بداية السبعينيات هى الريحانى والمتحدين وإسماعيل ياسين الذى ورثت مسرحه تحية كاريوكا – ومعظم تلك العروض لا يقدم إلا التسلية الرخيصة واللحم الرخيص والضحكة الرخيصة، فى عصر اتسم كله بالرخص .
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك فرقًا للقطاع الخاص قدمت أعمالاً رائعة دخلت تاريخ المسرح المصرى وتربعت، ولكننا نتكلم عن الغالبية العظمى التى كانت تتمثل فى تركيبة تكاد أن تكون ثابتة: راقصة ومطرب ومضحك بلا نص أو إخراج، وكأننا عدنا لمسارح عماد الدين أثناء الحرب العالمية الأولى التى كانت تقدم مسرحيات الفرانكو أراب واسكتشات كشكش بيه. وصارت أرباح تلك الأعمال مضمونة وضخمة، حتى تحولت بعض من دور السينما إلى مسارح ومن لم يجد له مسرحا ربما استأجر حديقة أو كازينو ليقدم عرضًا يستهدف (الطير الأبيض) الذى يهبط مصر صيفًا وفى الأعياد وإجازة نصف العام.
كانت كل العروض ضاحكة ولكنها ليست ساخرة، السخرية تحتاج إلى ثقافة ولها هدف، أما الضحك فكان للضحك فقط، السخرية لسان حال واصطدام مع أخطاء، أما الضحك ففيه تواطؤ على ألا نثير المشاكل، السخرية شكوى وانتقام والضحك لا يحب التوتر ويبحث عن الاسترخاء.
وزاد الطين بله، كما يقولون، إن الملوك الجدد طلبوا أن تكون التسلية (ديليفرى) بعد انتشار أجهزة الفيديو، فظهرت أندية الفيديو التى تؤجر لك فيلمًا أو مسرحية تراهما لمرة وتطلب غيرهم، أنها ثقافة (الشكلتس) تتناول قطعة اللبان – أو المنتج الفنى – لتأخذ منها قليلاً من السكر وترميها لتتناول غيرها، واشتغلت بالطبع (أفران الفن) لتنتج اللبان المطلوب الذى يستعمل لمرة واحدة (مثل مناديل الكلينكس) وعليه أيضًا أن يكون ناعمًا لا يجرح عند الاستعمال فلا يثير قضايا أو يبعث على التفكير .
وهكذا حول البعض عصا المصريين إلى وسيلة ارتزاق بدلاً من كونها وسيلة انعتاق، وبدلاً من أن تضرب المخطئ صارت تزغزغ من يدفع، وهكذا أصبح لدينا مجتمعين يحملان اسم مصر: أحدهما يحمل تاريخه وثقافته على ظهره ويتكئ على عصاه، والآخر تخلص من كل ما على الظهر ليفسح مكانًا لزى المهرج واستبدل العصا بمقرعته، وقرب نهاية ذلك العصر كانت كل رموز المجتمع الأول فى السجن .
وقبل اغتيال السادات كانت العدة تعد لدخوله سيناء على العجلة الحربية لرمسيس الثانى ليرفع العلم على بقية سيناء المستعادة، وترك المصريون أهمية الحدث وكان شاغلهم الأكبر هل سيرتدى السادات زيًا فرعونيًا كعادته فى ارتداء أزياء مختلفة؟ وهل سيكشف الرداء الفرعونى الذى يشبه الجيبة عن سيقان السادات؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة