أقلعت الطائرة بوزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر من واشنطن إلى القاهرة، فى أول زيارة له إلى مصر يوم 5 نوفمبر (مثل هذا اليوم)عام 1973، وجاءت بعد أيام من تثبيت قرار مجلس الأمن الدولى بوقف إطلاق النار على جبهات القتال فى الحرب التى دارت بين مصر وسوريا وإسرائيل منذ يوم 6 أكتوبر 1973.
كان الرئيس السادات أكثر المشتاقين للقاء كيسنجر، أما كيسنجر وطبقا لمحمد حسنين هيكل فى كتابه «أكتوبر 73 - السلاح والسياسة»: «راح يعد لرحلته الموعودة إلى الشرق الأوسط وهو يشعر بسعادة غامرة لم يكن قادرا على إخفائها عمن حوله، ولا حاول حجبها فى كل ما كتبه من وثائق فى هذه الفترة، كان دائما يرد نفسه فى الظاهر عن أزمة الشرق الأوسط باعتبار يهوديته، لكنه طول الوقت كان يتحرق إلى الاقتراب من المنطقة، والآن فإن أصحاب الأزمة أنفسهم هم الذين يتوسلون إليه ليجىء «مخلصا»، وإلى درجة أنهم يقبلون منه قصاصة ورق باعتبارها ضمانة أمن».
هكذا كان الحال الذى عليه الرجل الذى انتظره الرئيس السادات بشوق كبير، واستعد لرحلته بإجراءات كان أكثر ما يلفت النظر فيها هو التقارير التى عكف على قراءتها وحسب هيكل: «قرأ عدد من التقارير تصور أنه يتعرف من خلالها على المنطقة، والملاحظ- طبقا لروايته- أن تقريرين بالذات لفتا نظره واستحوذا على اهتمامه، وطلب وضعهما فى ملفاته التى حملها معه إلى الشرق الأوسط».
يؤكد هيكل: (كان التقرير الأول بعنوان «الشيخ والخيمة»، وتحدث عن عملية صنع القرار التقليدية فى العالم العربى، وكيف أنها فى العادة فى يد شيخ القبيلة، سواء كان هذا الشيخ يضع فوق رأسه «عقالا» أو «قبعة» عسكرية. فالقرار فى كل الأحوال تحت سلطة رجل واحد، يسمع من خاصته حكايات تقترب من موضوعات اهتمامه، وترتد إلى حكايات الماضى البعيد والقريب، وتعود إلى آمال المستقبل الهائمة والحالمة–كل هذا والشيخ يسمع ما يقال ويهز رأسه، ثم ينطلق فى النهاية بالحكمة المقطرة، وتتحول هزات رأسه لتصبح لها قوة القانون، وكانت العبرة التى استخلصها «كيسنجر» من هذا التقرير أن القرار العربى فى يد رجل واحد لا يلتزم بشىء إلا بما يهز به رأسه فى النهاية، وإذن فإن عليه أن يركز على «الشيخ» الجالس فى وسط الخيمة ولا يضيع وقتا مع غيره).
كان التقرير الثانى بعنوان «السوق» موصولا بالأول أو بالأدق هو نتيجة طبيعية لكيفية ولادة القرار العربى التى جاءت فى «الشيخ والخيمة»، ووفقا لهيكل، فإن تقرير «السوق» تعرض لأسلوب التفاوض العربى، وكيف أنه فى معظم الأحيان مزايدات ومناقصات غير مترابطة وغير متسقة، تبدأ فى المطالبة بالمستحيل المستمد من عوالم الأمانى والأوهام، ثم تروح «تفاصل وتساوم» بنفس أسلوب الصباح، وهى تظهر الغضب أحيانا، وأحيانا أخرى تظهر الحزن، وتكرر القسم بعد القسم على حسن بضاعتها، ثم تصل فى خاتمة المطاف إلى البيع بنصف الثمن الذى بدأت به، وأحيانا بربعه، ويؤكد هيكل: «أضاف كيسنجر إلى هذين التقريرين عبارة التقطها من مقال لـ«محمد حسنين هيكل»، جاء فيها: «أن الفارق بين الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى والفكر الاستراتيجى العربى هو أن الإسرائيليين يلعبون الشطرنج، فى حين أن العرب يلعبون الطاولة، وقد أعجبه التعبير طبقا لراويته».
قبل أن تقلع الطائرة بكيسنجر إلى المنطقة كان تفكيره الاستراتيجى استقر على عدد من الخطوط، أهمها طبقا لهيكل: «بدلا من البحث عن تسوية شاملة لكل جوانب الصراع العربى الإسرائيلى، فلابد من اعتماد سياسة جديدة تقوم على أساس «الخطوة خطوة»، بحيث تجرى المفاوضات كل مرة لتحقيق هدف محدود يتم الوصول إليه بقيادة أمريكية، حتى يتعود العرب خطوة بعد خطوة على توجيه أمريكى لمسار الأزمة وإدارتها، ثم إن تحقيق هذا الهدف المحدود يجب أن يتم مع كل دولة عربية على حدة، أى عن طريق مفاوضات ثنائية مع مصر، ثم مع سوريا، وربما مع الأردن، على أن تؤجل جميع القضايا الحساسة إلى آخر المراحل، ومنها مشكلة الفلسطينيين، ومسألة حدود إسرائيل الدولية، ومستقبل القدس، وبهذا تساعد حلول القضايا الأولية على خلق الجو المناسب للبت فى المسائل الحساسة على نحو أو وآخر».
هكذا جاء كيسنجر إلى المنطقة فكيف كان استقباله؟ وكيف فعل بها؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة