عاد الرئيس السورى شكرى القوتلى من زيارته إلى الاتحاد السوفيتى يوم 3 نوفمبر عام 1956، حسب تأكيد محمود رياض سفير مصر فى دمشق «وزير الخارجية وأمين عام جامعة الدول العربية فيما بعد»، فى الجزء الثانى من مذكراته «الأمن القومى العربى بين الإنجاز والفشل» عن «دار المستقبل العربى- القاهرة».
جاء سفر القوتلى أثناء العدوان الثلاثى «بريطانيا وفرنسا وإسرائيل» ضد مصر والذى بدأت غاراته يوم 29 نوفمبر عام 1956، وحسب رياض فإن دعوة القوتلى كانت قبل العدوان، واتصل به تليفونيا ليبلغه أنه سيلغى الزيارة، لكن رياض رجاه أن يلبى الدعوة قائلا له: «مصر بحاجة إلى تأييد الاتحاد السوفيتى، وأنت خير رسول لإقناع موسكو بالتدخل وتقديم العون لمصر».
فى نفس الوقت، كان هناك تخطيط سرى من ضباط بالجيش السورى للتضامن مع مصر، يقول عنه رياض، إنه أثناء سفر «القوتلى» زاره مجموعة كبيرة من قيادات الجيش السورى، من بينهم عبدالحميد سراج، رئيس شعبة المخابرات، الذى قال إنهم يستطيعون تدمير محطات ضخ البترول فى الأنابيب الذى تنقله بريطانيا من العراق إلى البحر المتوسط عبر سوريا، وكان أحد المصادر الرئيسية لتموين بريطانيا بالبترول، ويقول رياض: «رحبت على أساس أن العملية من أعمال المقاومة الشعبية، لاستبعاد أى مسؤولية عن الحكومة السورية».
تحول كلام «السراج» إلى واقع عملى، ويكشف محمد حسنين هيكل تفاصيله فى كتابه «الطريق إلى السويس» عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت»، قائلا إنه أثناء سفر القوتلى ذهب قادة الجيش السورى إلى رئيس الجمهورية بالنيابة «ناظم القدسى»، يسألونه عما يجب فعله لمساعدة مصر، وكان القدسى يقيم فى فندق «أوريان بالاس» فى دمشق، وقابل قادة الجيش مرتديا «الروب دى شامبر»، وحين سمع منهم فوجئوا بجوابه بتأجيل أى قرار 48 ساعة، وذلك ردا على مطلب الضباط بتفعيل ميثاق الدفاع المشترك بين مصر وسوريا والأردن الذى تم توقيعه قبل العدوان بأيام، وكان «السراج» أكثر المطالبين بالتفعيل.
خرج «السراج» مكتئبا حسب تأكيد «هيكل»، وعاد إلى مكتبه ليجد إشارة تخطره بظهور قطع بحرية أمام ميناءى اللاذقية وبانياس، أى فى نهاية أحد خطوط أنابيب نقل البترول، وهكذا طرح «خط الأنابيب» نفسه على فكره، فدعا ضابطا صديقه من لواء البادية، وطلب إليه الذهاب فورا لإيقاف عمل أجهزة اللاسلكى فى محطات الضخ، بحجة أنها قد تعطى إشارة إلى القطع البحرية التى ظهرت أمام الموانئ السورية، خشية أن يكون هناك ترتيب لإنزال على الشاطئ السورى، ونفذ الضابط المهمة.
توجه «السراج» إلى صبرى العسلى، رئيس الوزراء، بعد استدعائه، وكان وزير الأشغال مجدالدين الجابرى موجودا، وحسب هيكل، فإن «السراج» وقبل أن يجلس بادره «العسلى» بالقول، إن السفير الأمريكى كان موجودا عنده، وإنهم قلقون من توقف ضخ البترول نتيجة توقف محطات اللاسلكى، وإنه لو شعر الإنجليز أن شيئا حدث للخط فسيقومون بعملية إنزال على المحطات وعلى الخطوط، وتساءل العسلى: هل نقدر نحن على الإنجليز؟ هل نقدر نحن على الأمريكان؟ فرد «السراج» إنه أمر فعلا بتوقف محطات اللاسلكى لفترة مؤقتة بعد ظهور قطع بحرية، ويبحث عن موظفين سوريين يجيدون اللغة الإنجليزية ليجلسوا بجوار عمال الإشارة فى المحطات، ليتأكدوا من طبيعة الإشارات التى قد ترسلها هذه القطع التى تظهر أمام الموانئ، فتدخل وزير الأشغال، قائلا إنه يستطيع توفير عدد من موظفى البريد والرى يجيدون اللغة الإنجليزية، وأبدى السراج ترحيبه مشترطا أن يكونوا ممن يثق فيهم الجيش.
عاد السراج إلى مكتبه، وفكره مشغول بتصرف جذرى ونهائى، وطبقا لـ«هيكل» فإن تفكيره ذهب إلى عملية نسف، تؤدى إلى عطل كبير لا تكفى لإصلاحه ساعات ولا أيام ولا حتى أسابيع، فاستدعى صديقه الضابط مهندس المقدم «هيثم الأيوبى» وطرح عليه الفكرة فرحب بها، لكنه قال إنها تحتاج إلى ثلاثة أطنان من الديناميت ووسائل نقل وحراسة لتأمين المهمة المطلوبة، فدبرها السراج من مخازن الجيش عبر صديق له، وأمكن ترتيب ثلاث سيارات وقوة حراسة صغيرة، وقاد «الأيوبى» القافلة كلها، وتوقفت بحذر على طريق محطات الضخ، وآخرها فى دير الزور على بعد سبعمائة وخمسين كيلومترا من دمشق، وفى مثل هذا اليوم «3 نوفمبر 1956» الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تم نسف المحطة الأولى فى تدمر، وفى الساعة الرابعة صباحا تم نسف الثانية، وفى السابعة صباحا تحولت المحطة الثالثة فى دير الزور إلى حطام وأنقاض.