ننشر حلقات من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض اليوم".. الكاتب الكبير يكشف حكاية زنزانة الجربانين.. والمعاناة فى طابور الحمام بالسجن.. وماذا أجاب عندما سأله الشاويش: أنتم اللى عملتم المظاهرات؟.. صور

الإثنين، 27 نوفمبر 2017 04:04 م
ننشر حلقات من المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى "يوما أو بعض اليوم".. الكاتب الكبير يكشف حكاية زنزانة الجربانين.. والمعاناة فى طابور الحمام بالسجن.. وماذا أجاب عندما سأله الشاويش: أنتم اللى عملتم المظاهرات؟.. صور المذكرات الشخصية لـ محمد سلماوى تحت عنوان " يوما أو بعض اليوم"
كتب أحمد منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كاتب يحمل فى أعماقه الكثير من الذكريات والأحداث المهمة داخل مصر وخارجها، ولذلك قرر أن يسرد كل ما مر بحياته فى كتاب تحت عنوان "يوما أو بعض اليوم"، حتى يطلع القرّاء على أحداث مهمة تسكن ذاكرة التاريخ، وعلى تفاصيل لتلك الأحداث لم يكن يعلمها أحد، هو الكاتب الكبير محمد سلماوى، حيث حصلت "اليوم السابع"، على فصل كامل من مذكراته، سيتنفرد بنشره تباعًا على حلقات يومية.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

ولكن قبل الخوض فى مذكرات محمد سلماوى التى تصدر عن دار الكرمة فى ديسمبر، ويقام حفل توقيعة يوم 5 ديسمبرالمقبل، فى مجمع الفنون بالزمالك "قصر عائشة فهمى"، نريد أن نشير إلى أن عنوان الكتاب الذى إختاره المؤلف لسيرته الذاتية يجىء من الآية الكريمة 112 ـ 114 من سورة المؤمنون: "قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كُنتُم تعلمون".. وإلى فصل "مفكرتى الحمراء...وغرفة الإعدام!" من الكتاب.

 

محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧
محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧

 

حين وصلنا إلى سجن الاستئناف استقبلنا بترحاب أثار دهشتنا، فقد ظل الشاويشية يسألوننا: "إنتم اللى عملتم المظاهرات؟"، "إنتم إللى خرجتم الناس فى الشوارع؟"، "إنتم اللى نزلتم الأسعار تانى؟". كان رئيس الوزراء ممدوح سالم قد عقد مؤتمرا صحفيا قال فيه أن السلطات قد توصلت إلى رؤوس الفتنة الذين دبروا الأحداث التى شهدتها البلاد وحرضوا الجماهير على الخروج فى المظاهرات، وأنه قد تم إلقاء القبض على أربعة صحفيين هم: حسين عبد الرازق وفيليب جلاب ومحمد سلماوى ويوسف صبرى، وصدرت الصحف فى صباح ذلك اليوم وهو ٢١ يناير تحمل أسمائنا فى موضوعاتها الرئيسية باعتبارنا قادة تلك المظاهرات العارمة التى عمت البلاد من الأسكندرية الى أسوان والتى كنت أتمنى مشاهدتها مثل بقية أفراد الشعب.

 

الكاتب الكبير محمد سلماوى

أكدت لأحد الشاويشية الذى كان فرحا باستقبالنا أننا لا علاقة لنا بما حدث، وأننى شخصيا لم أشاهد تلك المظاهرات، وأن ما حدث هو انتفاضة عفوية من قام بها هو الشعب بنفسه، لكن فيليب قاطعنى بسرعة قائلا: "ما تصدقوش يا شاويش، الأستاذ محمد متواضع بس شوية".

كان فيليب جلاب، بحكم تجاربه السابقة، أعلم منى بالسجون وبطبيعة الحياة فيها، وشرح لى بعد ذلك أن تقدير السجانة لنا سيكون له أثر كبير على نوعية المعاملة التى سنلقاها داخل السجن، فالضباط سيصدرون الأوامر، لكن هؤلاء السجانة هم الذين سينفذونها... أو لا ينفذونها! والحقيقة أننا لاقينا أفضل المعاملة من السجانة طوال فترة حبسنا، لكنى فى الوقت الذى كنت أشعر أننى لم أفعل ما يستوجب أن أسجن، كنت أشعر أيضا أننى لا أستحق تلك المعاملة التفضيلية التى قامت على البطولة التى ألصقها بنا رئيس الوزراء والتى نقلتها عنه الصحف وأجهزة الإعلام.

لكن حدث عند وصولنا أن وجدت داخل السجن مجموعة من طلبة الجامعة الذين كان من بينهم طالب أعرفه هو عزت صبرة الذى ما أن رآنى حتى أخذ هو وزملاءه  يحيونى باحترام مبالغ فيه مما أثبت للشاويش أننى بالفعل قائدهم الذى أطلقهم فى المظاهرات، فقال لهم الشاويش بصيغة العارفين ببواطن الأمور: "ريسكم ده"، فقالوا له تأدبا: "طبعا". 

 

مفكرتي الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم
المفكرة الحمراء التى كان يدون بها محمد سلماوى أحداث السجن يوما بيوم

 

كانت المشكلة التى واجهت مدير السجن عند وصولنا هى عدم وجود زنازين خالية  لإيوائنا، لذلك تم فتح زنزانتين كانتا مغلقتان علمنا من الشاويش الجابرى، وهو كبير الشاويشية، أن إحداهما هى زنزانة التأديب التى يتم عزل من يراد عقابه فيها، والأخرى هى زنزانة الجرب التى يعزل فيها المصابون بالجرب من المساجين الذين طال حبسهم والذين أصبحوا لا يتعرضون لأشعة الشمس بالقدر الكافى، وتم توزيع الـ١٤ سجينا الذين جاءوا من القلعة بالإضافة إلى ٣ آخرين وجدناهم فى سيارة الترحيلات حين ركبناها، على هاتين الزنزانتين، لكن الشاويش صديقى أخذنى على جانب وقال لى أنه سيضعنا فى زنزانة التأديب أنا وزملائى الصحفيين قادة المظاهرات التى أنزلت الأسعار، فتصورت أن زنزانة الجرب بها بعض المصابين بهذا المرض، لكنه شرح لنا أن الجرب يسبب للمصاب به حكة شديدة تضطره للهرش طوال الوقت ولحك ظهره على حوائط الزنزانة الخشنة، وهو لا يريد لنا أن نلامس هذه الحوائط حتى لا تنتقل لنا العدوى بعد ما قمنا به من عمل بطولى نستحق أن نكافأ عليه لا أن نحبس بسببه، وفرحنا جميعا فرحا كبيرا بأننا سندخل زنزانة التأديب، وشكرنا الشاويش الجابرى على ذلك، فأوضح لزميله الشاويش الآخر: "هما دول اللى عملوا المظاهرات"، أمن فيليب على كلامه قائلا بجدية شديدة: "إحنا العقل المدبر".

 

كانت زنزانة التأديب باردة ومظلمة لا إضاءة فيها، ولابد أن اللافتة التى قابلتنا على باب السجن عند وصولنا اتخذت اسمها من هذه الزنزانة، فقد كانت تقول "دار الإصلاح والتقويم"، لكن الجو بداخل الزنزانة كان مَرِحا، فقد ظللنا نتسامر فيها حتى ساعة متأخرة من الليل، وكان الشاويش الجابرى يمر علينا كلما تعالت ضحكاتنا أو علا ضجيجنا ليطلب منا أن نخفض الصوت حتى لا يسمعنا الضابط. كان يحمل معه عصا غليظة كثيرا ما كان يضعها تحت إبطه وكأنها عصا المارشالية. وقد أصبحنا بعد ذلك نسميه المارشال الجابرى، وكان كلما مر علينا يسألنا إن كنا نريد شيء، ثم قبل أن يتركنا كان يسألنا أيضا إن كان معنا سيجارة، فالسجائر فى السجن هى العملة المتداولة، وكل شيء فى السجن له ثمن يباع به أو يشترى، والعملة دائما هى السيجارة، أو علبة السجائر، أو الخرطوشة، حسب الثمن، لذلك لم نكن نبخل على المارشال الجابرى بسيجارة كلما طلب، وهو أيضا كان يسعى لتلبية طلباتنا كلما استطاع، لكنه كان يحرص فى جميع الأحوال أن ينهى كلامه معنا بأن يصيح فينا بأعلى صوته "الله يخرب بيوتكم!" وكأنه يريد أن ينفى أمام زملاءه وجود أية علاقة طيبة معنا

نمنا ليلتنا الأولى فى هذه الزنزانة الباردة التى يبدو أنها أصابتنى بنزلة برد شعرت بها فى اليوم التالى حين داهمنى السعال، لكن العذاب الحقيقى كان حين جاء موعد دخول الحمام فى الصباح وبدأ المساجين يتشاجرون على أولوية استخدام دورة المياة. كان قد تم فتح الأدوار العليا التى كانت مغلقة لكن دورات المياة بها لم تكن صالحة للاستعمال فكان نزلاء السجن جميعا يتدافعون كل صباح لاستخدام دورات الدور الأول والثانى، ونظرًا للزحام الشديد فقد احتك ذراعى عند الكوع بحائط دورة المياة، وفى المساء كان قد تورم والتهب قليلا.

فى ذلك اليوم تم إخراجنا من زنزانة التأديب بالدور الأول والتى كان مدير السجن يريدها خاليا حتى يستطيع استخدامها، وقال لنا المارشال الجابرى أننا سننتقل إلى الدور الثالث بعد أن تم فتحه وسيكون مكاننا بالمخصوص، وكانت فرحتنا كبيرة للخروج من زنزانة التأديب الضيقة، وفرحتنا أكبر بأننا سننتقل إلى المخصوص، إلى أن علمت أن المخصوص هو القسم الذى يضم زنازين المحكوم عليهم بالإعدام والمساجين الخطرين.

كانت الزنزانة الجديدة أوسع وكانت تحمل رقم ٢٧، وقد أسر لنا المارشال الجابرى أنها زنزانة صالح سرية، أحد أهم وأخطر نزلاء سجن الاستئناف، فهو الذى قاد تنظيم الكلية الفنية العسكرية، وكان من أصل فلسطينى جاء إلى مصر عام ١٩٧١ وانخرط فى تنظيم الإخوان المسلمين بعد مقابلة مع المرشد العام حسن الهضيبى، وأعد للانقلاب على الحكم بخطة خبيثة تقضى بالتنصل علنا من جماعة الإخوان فإذا نجح الانقلاب تبناه الأخوان وسيطروا بذلك على الحكم، وإذا فشل تبرأوا منه باعتباره عملا خارجا على تنظيمهم قام به بعض الشباب المتهور، وقد نفذ صالح سرية مخططه يوم ١٨ أبريل ١٩٧٤ كأول محاولة انقلاب يقوم بها التيار الإسلامى ضد حكم السادات، حيث اقتحم عدد كبير من أعضاء التنظيم بقيادته مستودع الكلية الفنية العسكرية، واستولوا على الأسلحة، وكانت الخطة تقضى بالتوجه بعد ذلك ببعض الأسلحة الثقيلة إلى مقر الاتحاد الاشتراكى لاغتيال السادات الذى كان فى اجتماع هناك، وإعلان قيام جمهورية مصر الإسلامية، لكن المحاولة فشلت، وراح ضحيتها ١٧ قتيلا و٦٥ جريحا من طلبة الكلية، وصدر الحكم بإعدام صالح سرية، وأودع فى زنزانتنا هذه إلى أن تم تنفيذ الحكم هنا فى سجن الاستئناف قبل دخولنا بحوالى سنة.

وكان من بين جيراننا فى الزنازين المجاورة شاب ريفى بسيط هو أحمد الذى عرف إعلاميا وقتها باسم سفاح الجيزة بعد أن هتك عرض صبى صغير ثم قتله خشية أن يفتضح أمره، وكان يبدو طيب القلب لولا معرفتنا بجريمته، وسمير وليام باسيلى الذى كان قد ترك البلاد وهاجر إلى ألمانيا بسبب خلافاته الدائمة مع والده، حسبما قال لنا، وهناك قامت المخابرات الإسرائيلية "الموساد" بتجنيده للعمل جاسوسا لها، وحين قام والده بزيارته فى ألمانيا نجح سمير فى اقناعه بالعمل معه، واشتهر بأنه كان أول جاسوس يقوم بتجنيد والده، وقد صدر الحكم بإعدامه عام ١٩٧١، لكنا دخلنا السجن عام ١٩٧٧ وخرجنا منه دون أن يكون الحكم قد نفذ، وقد سمعنا بعد ذلك أنه تم مبادلته بعد توقيع السادات لاتفاقية كامب ديڤيد بمساجين مصريين فى إسرائيل.

فى ذلك اليوم تناولت واحدة من أشهى الأطباق التى تناولتها فى حياتى، وكان طبقا من العدس ورغيف خبز بلدى قدمته لنا ادارة السجن، وقد استمتعت به لأنى لم أكن قد تناولت وجبة حقيقية من يوم القبض على، وحين أبديت سعادتى بذلك الطبق الشهى وجدت الزميل الصحفى الذى صار صديقا عزيزا بعد ذلك يوسف صبرى يضرب كفا بكف وهو ينظر الى متعجبا، فأدركت أن الجوع قد فعل فعله بى وليس طعم الأكل والذى كان يسمى فى السجن "التعيين".

فى اليوم التالى استدعيت الى مكتب مأمور السجن حسين كامل عثمان..... ومع الحلقة الثانية غدًا..










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة