كان المشير عبدالحكيم عامر ، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وزير الحربية، مدعوًا إلى حفل عشاء كبير، أقيم فى قاعة «كاترين العظيمة» بالعاصمة السوفيتية موسكو يوم 2 نوفمبر «مثل هذا اليوم» عام 1957، وذلك فى اليوم التالى من زيارته «راجع ذات يوم 1 نوفمبر 2017»، كان الكتاب الصحفى محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير الأهرام وقتئذ، ضمن أعضاء الوفد المصرى برئاسة «عامر»، المشارك فى احتفالات العيد الأربعين للثورة السوفيتية، وينقل وقائع ما حدث فى كتابه «سنوات الغليان» قائلًا: «كان عبدالحكيم عامر يسبح فى الأضواء الباهرة للدبلوماسية السوفيتية عند أعلى مستوياتها، وفى اليوم التالى لوصوله إلى موسكو كان مدعوًا إلى حفل عشاء كبير أقيم فى قاعة كاترين العظيمة، وهى أفخم قاعات الكرملين بأعمدتها الرخامية البيضاء الشاهقة، وجدرانها وسقوفها المغطاة بالذهب، وثرياتها التى لم يبدع أساطين الفن فى أوروبا أجمل منها ولا أروع، وعندما دخل عامر إلى القاعة، كان محط الأنظار بالفعل، وكان ذلك راجعًا بطبيعة الحال إلى أنه دخل هذه اللحظة ممثلًا لمجد السويس «فشل العدوان الثلاثى على مصر عام 1956»، وأقبل عليه كبار المدعوين يتسابقون إلى مصافحته».
«كان المشهد مثيرًا للاهتمام» بوصف «هيكل»، مضيفًا: «أقبل ماو تسى تونج، قائد الثورة الصينية يصافحه، وظل ممسكًا بيده وهو يقول له: قل للرئيس ناصر إننى أريد أن أراه، وإننى معجب بكفاحه وصلابته فى سبيل استقلال بلاده وحريتها، فأنا أحب جميع الذين يحبون حريتهم، ثم أمسك تونج بكتف عامر وقال له: إننى سعيد أن وزير حربية مصر شاب إلى هذه الدرجة، فالمجهود العسكرى اليوم يقتضى جهدًا لا يقدر عليه غير الشباب، وأريد أن أقول لك نصيحة من صديق أكبر منك سنًا، وسكت تونج لحظة، ثم استطرد: جنرال عامر، لا تدخر جهدًا فى الاستعداد، وفى تدريب جنودك، لن يتركوكم ولا تتصوروا أنهم سوف يسكتون عنكم، بل هم سوف يطاردونكم إلى آخر الأرض».
يضيف «هيكل» أنه بينما كان «تونج» يتحدث إلى «عامر» اقترب منهما هو شى منه، قائد المقاومة الفيتنامية ضد أمريكا وأول رئيس لها ومؤسس نهضتها الحديثة، وهو يسحب فى يده الأسقف هوليت جونسون، وكان معروفًا بأفكاره التقدمية حتى أطلق عليه وصف «الأسقف الأحمر»، وقال هو شى منه لـ«عامر»: «لقد كنا نتابعكم ساعة بساعة، وكانت قلوبنا معكم، وقد أحسسنا بفخر عندما رفضتم الإنذار البريطانى الفرنسى «العدوان الثلاثى 1956»، وقررتم المقاومة مهما كانت التضحيات، إن الذى يحسب التضحيات أمام نداء الحرية سوف يجد نفسه يخسر الاثنين، حريته وتضحياته بغير قتال».
لم يكن الرئيس السوفيتى «خروشوف» التقى بـ«عامر» بعد، وحسب «هيكل»: «أقبل السفير سيمونوف، وكيل وزارة الخارجية السوفيتية، يربت على كتفى عامر يستأذنه فى كلمة، ثم يهمس فى أذنه بأن خروشوف يريد أن يراه بعد أن يفرغ من حديثه مع ماو تسى تونج، وهو شى منه، وبعد دقائق توجه عامر إلى حيث يقف سيمونوف، ومعه السفير محمد القونى، سفير مصر فى موسكو، والسفير نيكولاى تسائيتسيف، ثم تحرك الثلاثة نحو باب القاعة حيث كان خروشوف ينتظر فى أحد الأركان، وهمس سيمونوف فى أذن عامر: هل لاحظت سفير فرنسا وسفير إسرائيل، كلاهما يتابع كل سكنة وكل حركة تقوم بها، وكان خروشوف قد مد يده لعامر مرحبًا، ثم احتضنه وقبله والأضواء كلها مسلطة عليهما وكذلك الأنظار، وقال خروشوف: يبدو أننا لن نستطيع أن نتحدث طويلًا فى هذا الجو، إننى تركتك فى أول يوم لزيارتك إلى العسكريين، لكننى لا أنوى أن أتركك معهم طويلًا، لقد فهمت أن الرئيس ناصر كلفك أن تبحث معنا عددًا من المسائل، وأريد أن أعرف منك رؤوس موضوعاتها حتى نستطيع أن نقرر من يمثلنا فى التفاوض بشأنها معك، رد عامر بسرعة: إننى مكلف بثلاثة أنواع من المسائل: سياسية.. اقتصادية.. عسكرية، رد خروشوف: فى المسائل السياسية سيكون الحديث معى ومع بولجانين، رئيس الوزراء، ومع جروميكو، وزير الخارجية، وفى المسائل الاقتصادية سيكون الحديث مع ميكوبان، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وبيروفكين، المشرف العام على العلاقات الاقتصادية الخارجية للاتحاد السوفيتى، وفى المسائل العسكرية سيكون حديثك مع المارشال مالينو فسكى، وزير الدفاع.. تساءل خروشوف: هل هذا كافٍ؟، وتولى الإجابة نيابة عن المشير عامر السفير المصرى محمد عوض القونى، الذى قال لخروشوف: إن هذا أرفع مستوى يمكن أن يتفاوض فيه الاتحاد السوفيتى مع أى دولة أخرى، ونحن شاكرون لها الاهتمام».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة