- أكثر من ستين صحفياً ومئات الجرحى حصيلة الحرب فى سوريا
وصلتنى دعوة عبر الهاتف تقول «نقابة الصحفيين السورية تقيم مهرجان الإعلام الأول فى دمشق ويشرفنا حضوركم»، وللحق ظننت أن الرسالة دعابة من أحد الأصدقاء، فرغم أن أوزار الحرب التى تخوضها سوريا خف صوتها قليلًا، فإنها دولة مازالت فى حالة حرب حقيقية، فكيف بها تهتم وتستطيع أن تقيم مؤتمرًا للإعلام، وأى إعلام هذا الذى تناقشه، وهى كما تواجه حربًا عسكرية تواجه حربًًا إعلامية بالتأكيد، ولكن على كل حال فقد كانت الدعوة حقيقية، وشددت الرحال لبلاد الشام التى انقطعت عن زيارتها منذ تسع سنوات، وكان السؤال الذى يلح علىّ خلال الساعة والنصف الساعة، وهى المسافة بين القاهرة ودمشق: تُرى ماذا فعلت الحرب ببلاد الشام التى عرفتها هادئة نظيفة جميلة ومبهجة ومشعة بالثقافة والفن؟
اللقاء والانطباع الأول
لن أكون مبالغة إذا قلت إن عبارة قالتها لى ابنتى حين عرفت بسفرى لدمشق ظلت تتردد فى أذنى من قبل وصولنا، وحتى لحظة وصولنا للفندق، أما العبارة فهى أن حلب تحترق وأن سوريا دُمرت، فلماذا تذهبين لبلد تركه أهله هاربين من أتون الحرب؟، ولكن بشاشة الوجوه التى التقيناها، والطرق المعبدة التى سرنا فيها حتى وصولنا للفندق، والحياة التى تدب فى شوارعها، والنساء الجميلات اللاتى يرتدين أحدث الموضات، لم تكن لتنبئ بأن تلك دولة فى حالة حرب طاحنة، ربما مجرد بعض نقاط تفتيش هنا وهناك يتولاها رجال من الجيش، وهى معتادة بالنسبة لى كمصرية فى السنوات الأخيرة.
إذًا فالأمر ليس كما صورته ابنتى نقلًا عن الإعلام، وكان اللقاء الرسمى الأول مع نقيب الصحفيين السورى موسى عبدالنور، وهى الجهة المنظمة للمهرجان.
وكان السؤال الأول الذى وجهته له: كم عدد الصحفيين الذين استشهدوا فى هذه الحرب؟، خاصة أن عنوان المهرجان كان «حكاية صمود»، فأجاب بأن هناك أكثر من ستين صحفيًا استشهدوا، بينما هناك عشرات من الجرحى أثناء التغطية الصحفية للحرب.
وقائع الاحتفال بمهرجان الإعلام الأول
بدأ المهرجان الذى أقيم فى دار الأوبرا السورية بقلب دمشق بمعرض صور فوتوغرافية تصور سنوات الحرب، افتتحه وزير الإعلام رامز الترجمان، والدكتور مهدى دخل الله، مسؤول الإعلام بحزب البعث الحاكم، ثم أعقب المعرض جلسات نقاش بين الوفود الحاضرة من لبنان ومصر وفلسطين والمغرب والكويت والعراق والسودان وجنوب أفريقيا والصومال، وبين مسؤول الإعلام فى حزب البعث، وعدد من الصحفيين السوريين.
وقد تحدث الصحفيون على اختلاف بلدانهم عن تجاربهم الصحفية كأفراد ودول، خاصة فى فترة ما أطلق عليه الربيع العربى، أو فى فترات الحروب، وقد أشار نقيب الصحفيين العراقى إلى أن حوالى 400 صحفى استشهدوا مؤخرًا فى العراق من جراء الحرب، بينما المصابون بالمئات وأكثر.
مسؤول الإعلام فى حزب البعث يتعرض لموقف محرج
وكان أحد رؤوس الموضوعات التى تحدث فيها الحضور، تأثير السوشيال ميديا على الصحافة والجماهير، خاصة فى الصراعات السياسية والحروب، وهنا أخرج الدكتور مهدى خلف الله، مسؤول إعلام حزب البعث، ورقة مطبوعة من جيبه، وقال إنه يتمنى ألا يكون ما هو مكتوب بها غير صحيح، حيث قرأ أنه فى مادة التربية القومية فى مصر يتم تدريس أن القدس عاصمة إسرائيل الأبدية، فاستوقفته وسألته عن مصدره لهذا الكلام، فردد أنه منقول من أحد مواقع الإنترنت! فنفيت الأمر برمته، وأبديت تعجبى أننا فى ملتقى إعلامى متخصص، ورغم ذلك يلجأ مسؤول إعلامى ليردد حديثًا غير موثق، منقولًا دون إثبات، وتحدث كذلك المذيع فى التليفزيون المصرى عاطف كامل، ليجد مسؤول الحزب نفسه فى وضع محرج، فيضطر للاعتذار عن عدم التدقيق فى المعلومات قبل نقلها، وهى آفة العوام ويجب ألا تصدر من شخص مسؤول عن الإعلام.
التقاء الأجيال
ضم المهرجان احتفالية خاصة محلية بتوزيع الجوائز التى منحها كبار الصحفيين والإعلاميين للأجيال الشابة، فى مجالات الإعلام المختلفة، من صحافة بمختلف فروعها، وكذلك للعمل التلفزيونى.
ختام سورى مصرى فنى
فى مساء ختام المهرجان الذى حضرته الوفود المشاركة، وانضمت له الإعلامية هالة سرحان، والفنانة إلهام شاهين، والنجم السورى دريد لحام، تم تنظيم حفل غنائى فنى فى دار الأوبرا، أحيته فرقة عدنان فتح الله الموسيقية، وكان أغلب الأغنيات مصرية لسيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب، كما عزفت الفرقة بعضا من المقطوعات الموسيقية لعمر خيرت، فكأن دمشق بفرقتها تعلن أن الفن المصرى والسورى لا يمكن أن يختلفا، بل يتكاملان.
لقاء وزير الإعلام السورى
وكان لنا لقاء خاص مع المهندس رامز الترجمان، وزير الإعلام السورى، الذى بدأ حديثه بأنه يشكر عبر الصحافة المصرية كل من آمن وكان واثقًا أن سوريا لن تسقط.
وقال الوزير إن سوريا مرت بسنوات صعبة، ومازال أمامها سنوات أصعب هى سنوات التعمير.
وأضاف «الترجمان» أن الحرب على سوريا منذ بداية الأحداث كان هدفها تغيير الإرث الثقافى والحضارى، بدليل أن كل العمليات العسكرية من قِبل الإرهابيين، كانت بداية تستهدف الآثار فى أى منطقة يدخلونها بما فيها المساجد، كما تم تهجير المسيحيين بشكل ممنهج.
وحول سؤال عن إحصاء محدد لعدد النازحين من سوريا منذ بداية الأزمة، قال الوزير إن العدد حوالى 6 ملايين سورى، ولكن هناك بعض الدول التى تذكر أعدادًا أكبر بكثير، لأنها تتلقى معونات باسم اللاجئين، مثل تركيا والأردن ولبنان، ولكن «الترجمان» توقع عودة عدد كبير من الهاربين من الإرهاب فى غضون السنوات المقبلة، فكما قال إن السوريين لم يهربوا من نظام سياسى، لكنهم هربوا من إرهاب كان يحاصرهم، ولكن الجيش السورى حرر أكثر من 70% من الأراضى السورية.
وقال الوزير أنه يوجد فى سوريا منذ بداية الحرب ما يتراوح بين 200 و300 ألف إرهابى من المرتزقة الأجانب، وأغلبهم زعماء للفصائل، وأن الحدود السورية التركية كانت هى المنفذ الرئيسى لدخول الأجانب المرتزقة، مضيفًا أنه يوم يخرج الأغراب من سوريا ستعود ثانية كما كانت.
وحول سؤال عن المعارضين من السوريين، وموقف الدولة منهم الآن وبعد الحرب، قال الوزير: «إن أكثر من 70% ممن شاركوا فى الجماعات المسلحة من السوريين كانوا مدفوعين بسبب شعارات دينية كاذبة، إضافة لرواتب بالدولار كانت تُدفع لهم، بينما هناك نسبة أقل كثيرًا هم جزء من الإرهاب الممنهج رغم كونهم سوريين، ونحن ندعو لمصالحة وطنية فمن لم يقتل فهو سورى، وجزء من نسيج المجتمع، وأنه حتى السورى الذى قتل فالقانون سيحاكمه»، وهنا كان لابد أن أسأله عن موقف الدولة من الفنانين السوريين المعارضين الذين يعيش بعضهم فى القاهرة، وكانت إجابة وزير الإعلام السورية قاطعة بأنه إذا كانت الدولة ستسامح من غُرر بهم، فكيف لا تتسامح مع رموز فنية وثقافية مهما اختلفت حول السياسة، وحدد الوزير بالاسم الفنان جمال سليمان، وأن قناة «سوريانا» الفضائية تستضيفه، وليس هناك من حظر على ظهوره.
سوق الحميدية وبوظة بكداش وجامع الأمويين والناس فى الشوارع
قد يبدو كلام المسؤولين فى دولة، أى دولة، هو الكلام الرسمى المرتب الذى يجب علينا كصحفيين نقله، ولكن الأهم من كلام أو صور نراها فى مكاتب المسؤولين، صورة الشارع والناس وحكايات يروونها، ووجوه تعكس نبض الحياة أو الأزمات، ولذا فكان علىّ أن أتنقل بين أشهر مشاهد وشوارع دمشق التى كنت أعرفها، وأقارن بينها وبين سنوات مضت كانت فيها سوريا آمنة.
ربما أول ملحوظة استرعت انتباهى وجود مولدات كهرباء كثيرة فى الشوارع، أمام المحال خاصة، وحين سألت عن هذه الظاهرة قالوا لى إن الكهرباء فى السنوات الماضية كانت تنقطع كثيرًا ولوقت قليل، فكثر استخدام المولدات، ولكن الأمور تحسنت الآن ولم تعد الكهرباء تنقطع.
سوق الحميدية، والجامع الأموى المواجه له، وحارات دمشق القديمة، وأشجار الياسمين التى طالما حكى عنها نزار قبانى مازالت كما هى، لم تطلها يد الخراب أو الإرهاب، ووقفت أمام «بكداش»، أشهر محال البوظة السورية، وهو يعج بالزبائن، وكأن لا شىء تغير منذ زيارتى الأخيرة لدمشق قبل الحرب، فمازال «بكداش» يقدم أشهى بوظة سورية.
ولكن هذه العبارة الأخيرة هى مجرد ملحوظة بصرية، لأن الواقع يقول إن الكثير قد تغير، فسوريا قبل الحرب كانت من أرخص العواصم العربية فى المعيشة، فعام 2009 كانت المائة دولار تساوى 4500 ليرة سورية، واليوم المائة دولار تساوى نصف مليون ليرة سورية!
زادت الأسعار بصورة كبيرة جدًا، وهو ما يعنى ضمنًا أن الفقر قد زاد، ولكن يظل بالتأكيد أن أعداد المتسولين قليلة جدًا، مقارنة بالقاهرة كمثال.
رحت أتجول وأسأل الباعة عن الحال، وقد أجمع الجميع بأنهم فى تحسن يزيد يومًا بعد يوم، حتى لو كان بطيئًا، من بعد سنين عجاف صعبة.
الجمال والموضة وسهرات الشام
يحمل رجل الشارع غصة فى حلقه، فسوريا كانت دولة لا تستورد طعامها، وكانت غير مديونة، والسياحة كانت تمثل جانبًا كبيرًا فى الاقتصاد السورى.
كما أن حلب كانت قلعة صناعية كبيرة، كل هذا قد دمرته الحرب، وبعض من أهالى حلب الذين انتقلوا للعيش فى دمشق ذكروا لى أن كثيرًا من مصانع حلب تم تفكيكها ونقلها بالكامل لتركيا، النقطة الأقرب لها.
ولكن رغم كل تلك الصعاب وجراح الحرب، فإن مقاهى الشام وأماكن السهر والسمر تعج بالبشر، خاصة الشباب والشابات اللاتى يرتدين أحدث الموضات، وقد حضرت بعض عروض الأزياء فى إطار أسبوع الموضة والجمال، الذى نظمته وزارة السياحة فى نفس توقيت مهرجان الإعلام، وتميز بدقة الصنع والذوق الرفيع لأحدث الموضات، فكأن أهل الشام يعلنون أن الجمال والأناقة لن تموت فى بلادهم مهما كان الخوف أو الألم.
مصر هى القلب النابض للشام
كنت كلما زرت بلاد الشام قبل سنوات الحرب أعود وأنا أكرر عبارة أعنى كل كلمة فيها، ففى بلاد الشام مغفور لك خطاياك لأنك مصرى، وها أنا أزور البلد الجريح ولا شىء تغير فى تكوين العبارة، فمازال رجل الشارع، قبل المسؤولين الرسميين، يعتبرون أن مصر هى القلب النابض، وكثير منهم يحمل غصة فى قلبه من أشقاء عرب كُثر إلا مصر، لأنها كما قالوا لى بالحرف: الأم التى احتضنت الأبناء، فهى البلد الوحيد الذى لم تعامل أهلهم كلاجئين، ووضعتهم كآخرين فى مخيمات، ولكنها استقبلتهم كأهل البيت ويكفيها هذا.
لم يسنح لى الوقت لزيارة حلب وإدلب والمناطق المحررة كما يقول عنها السوريون، ولكن زيارتى لدمشق على الأقل أكدت لى أن الإرهاب يواجه شعبًا حيًا وتاريخًا مقاومًا، مهما حاولوا هدمه فلن يفلحوا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة