عبد الفتاح عبد المنعم

متى تحولت أمريكا من نظرية «القوة الناعمة» إلى «العدوانية الناعمة»؟

الخميس، 26 أكتوبر 2017 12:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أواصل قراءاتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادا إلى دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالثة، فتحت عنوان «الثقافة والقوة الناعمة.. حروب أفكار فى السياسة الخارجية»، وضع الباحث نزار الفراوى دراسة خطيرة نشرها «مركز برق للأبحاث والدراسات»، حيث تقول الدراسة: «لعل وضع أمريكا كقوة عظمى مهووسة بالحفاظ على الريادة والدفاع عن موقعها المهيمن فى الساحة الدولية، يطبع قوتها الناعمة تجاه العالم العربى الإسلامى بخاصية التصلب وربما «العدوانية الناعمة»، وتعتمد القوة الناعمة الأمريكية بوجهها غير الرسمى غالبا على أنها قوة تستند أساسا إلى حيوية نسيجها الاقتصادى الذى جعل من منتجاتها الاستهلاكية علامة غير قابلة للتنافس 52، فعلامات مثل كوكا كولا وماكدونالدز ونايكى وغيرها أصبحت أسماء متعددة لأسطورة القوة الأمريكية، وكذاك الشأن مع مشاهير الموسيقى وأفلام هوليود التى تحكى قصص النجاح فى هذا البلد وتشكل على نحو مثير التفاعل الوجدانى والفكرى لمليارات البشر مع العالم.
 
بالطبع، لا تتخلف الإدارة الأمريكية عن توفير الرعاية والتشجيع الكاملين للشركات التى تدر ملايير الدولارات على البلاد، لكن الاستثمار التقليدى المؤسساتى فى برامج تعاون ثقافى وعلمى وفنى فى الخارج يبقى محدودا مقارنة مع الأولويات الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية، على خلاف ذلك، تكتسى القوة الناعمة وخصوصا فى وجهها الدبلوماسى الثقافى طابعا أكثر تمركزا وإرادة فى أجندة قوى تقليدية أخرى صاعدة على المستويين الدولى والإقليمى.
 
فرنسا: «البريستيج» ثابت فى السياسة الخارجية: تقدم فرنسا نموذج دولة ذات قوة ناعمة تعتمد دبلوماسية ثقافية ولغوية تقليدية، استفادت فرنسا من ريادتها فى التاريخ الأدبى والفكرى منذ عصر الأنوار وكرستها الثورة الفرنسية منارة لقيم الحرية والعدالة. تبلور «البريستيج» الفرنسى فى تأثير الأدب الكلاسيكى وإشعاع عطاءات نخب من المفكرين والفلاسفة والباحثين الاجتماعيين، سواء من الفرنسيين أو من الذين فجروا عطاءاتهم على أرض فرنسا، انضافت إلى ذلك جاذبية مؤسساتها التعليمية التى كونت مبكرا نخبا عادت إلى بلدانها لتحكى سحر الإبداع والحارة الفرنسية، دون إغفال صيت فن الطبخ وتطور فنون الموسيقى والرسم فى حضنها، كان يتعلق الأمر بإشعاع حضارى ثقافى وفنى مارس غوايته حتى على أشد خصوم فرنسا فى وجهها الإمبريالى الاستعمارى.
 
لقد نظر إلى الدبلوماسية الثقافية كقطاع حيوى منظم من السياسة العامة للدولة بفرنسا التى أبدت اهتماما خاصا بنفوذها الثقافى فى الخارج ابتداء من نهاية القرن 19، وقد سجل منظر «القوة الناعمة الأمريكية» جوزيف ناى فى دراسته لعام 2004 أن فرنسا من أكثر البلدان إنفاقا على العلاقات الثقافية الخارجية من حيث نسبة الإنفاق إلى كل مواطن، وقد راكمت فرنسا خبرات طويلة فى الاستثمار الثقافى للمرجعيات التاريخية والثقافية التى تقاسمتها مع عدد من البلدان، إنها دبلوماسية مرتبطة بتأطير مالى وسياسى وإدارى قوى من المركز.
 
يتحدث أندريه مالرو عن هذه «الصناعة» الفرنسية القديمة قائلا: «هناك دول لا تصبح أقوى إلا حين تصبح أقوى فى عيون الآخرين»، بدأ تمدد المؤسسات الثقافية الفرنسية قبل 1914، متمركزة حول الحوض المتوسطى، ووسعت نطاقها لأمريكا الجنوبية وباقى أوروبا خلال ما بين الحربين، قبل أن تنتشر فى آسيا منذ أكثر من عقدين.
 
من العصر الذهبى للنفوذ الثقافى الفرنسى وحتى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، بفعل تحولات خريطة توزع القوى المؤثرة، وتراجع وضعية اللغة الفرنسية قطب الرحى فى الدبلوماسية الثقافية لفرنسا، واكتساح تكنولوجيا التواصل لساحة الاستهلاك والتبادل الثقافى، ناهيك عن تراجع قدرة الاقتصاد الفرنسى على تمويل تدخلات خارج الحدود ذات طابع ثقافى، ومع ذلك يحتفظ العقل السياسى الفرنسى بقناعة ثابتة حول ارتباط القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية كأداة لها بمستقبل فرنسا فى خارطة القوى الدولية، استراتيجيا واقتصاديا، بل إن كزافيى داركوس، مدير المعاهد الفرنسية، الشبكة العالمية من المراكز الثقافية واللغوية التى تمثل ثقل الثقافة الفرنسية، قال عام 2011: «فى سياق أزمة اقتصادية عالمية، فإن بلدنا سيعوض تراجعه النسبى فى التنافس الصناعى عبر الحفاظ على نفوذها الثقافى، الدبلوماسية الثقافية ليست ترفا، بل رهان حيوى».
 
فى 2011، لخصت هذه الأرقام حضور الدبلوماسية الثقافية الفرنسية على الساحة: 161 دائرة للتعاون والعمل الثقافى، 101 معهد ثقافى، 445 رابطة فرنسية، 50 ألف تظاهرة ثقافية، 8 آلآف فنان ومثقف زاروا 150 دولة، 9000 كتاب ترجم إلى لغة أجنبية، 215 مليون بيت يشاهد القناة الخامسة الفرنكوفونية، 284 ألفا و600 طالب أجنبى فى فرنسا، 15 ألفا و380 طالبا أجنبيا يستفيد من منحة الحكومة الفرنسية. وبما أن لغة موليير فى صلب هذه الدبلوماسية الثقافية فإن تراجع موقع الفرنسية فى خضم موجة التواصل التكنولوجية، ووسائط التواصل الاجتماعى يثير نقاشا فى الدوائر الفرنسية حول سؤال: ما العمل من أجل استعادة المبادرة.
 
اليوم وبسبب الاقتطاعات المتواصلة فى الميزانيات، واحتدام المنافسة بين النماذج الثقافية وتحولات عالم مفتوح على جميع التأثيرات الثقافية، يبدو حسب بعض المهتمين أن «فرنسا لم تعد تملك إمكانيات تفعيل طموحاتها».. «يتبع».






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة