محمد حبوشه

"مروان نزيه".. زرع الأمل فى نفوسنا ورحل!

الجمعة، 20 أكتوبر 2017 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أكتب اليوم عن إنسان عادى، شاب فى مقتبل العمر لايزيد عن 24 عاما، ليس نجما يتلألأ فى سماء الفن أو على بساط الساحرة المستديرة، كما إنه ليس كادرا سياسيا احترف لعبة العبث بمشاعر الناس على جناح تزييف الحقائق، وأجاد حرفة التقلب على بساط الأحلام المستحيلة، بل كان شابا مصريا عاديا لم تحتفى برحيله الصحف والإذاعات والفضائيات الغارقة فى تزيف واقع هذا الوطن، وعلى الرغم من أنه استطاع أن يزرع الأمل فى نفوسنا إلا أنه رحل عنا فى لحظة صمت أذهلتنا من هول الصدمة والفجيعة - لقد كان ابن موت حقا، - قضى جل حياته فى البحث والتأمل فى حياة كل منا لصناعة الأمل، بعدما ترك مالا يعنيه وظل يبحث عن إجابة لسؤال ملح يطارده أينما ذهب: كيف يشقى الإنسان كل هذا الشقاء ويستطيع تحمل تلالا من الألم لاتقوى على حملها الجبال؟.. لقد كلفه هذا السؤال كثيرا فى محاولة الوصول لإجابة تبدو مستحيلة، وبذل كثيرا من الوقت والجهد دون جدوى، لكنه لم ييأس بعدما أدرك بفطرته الطيببة كيف يرمى بذور الأمل فى طينة قابلة للزراعة والنمو، فتصير كيانا إنسانيا يقوى على تحمل الصعاب فى رحلة الحياة التى حرم منها هو نفسه صغيرا.
 
مروان كان طالبا فى السنة النهائية بكلية الطب - باق له شهرين فقط على التخرج - دشن مع زملائه من الشباب مايسمى بـ ( (TEDx Cairo Universityوالتى بمقتضاها تم إطلاق مبادرة XChange لنشر فكرة تبادل الأفكار إيمانًا منهم بأن الأفكار ليست فقط للعرض ولكن لرسم صورة كاملة للحدث، مطالبين أفراد المجتمع بالمشاركة والخروج من صندوق المألوف واستعارة آراء وأفكار الآخرين والنظر للأمور بأكثر من زاوية ليتفهموا العالم من حولهم، وشهدت المبادرات والنشاط نجاحا ملحوظا ورد فعل إيجابى من جميع الأعمار، محيين فكرتها وفكرة المنظمة راغبين فى حضور الحدث الثالث للنشاط فى أبريل 2017، والذى كان آخر حدث قدم فيه "مروان نزيه" مشاركته التى يمكنها أن تجعلك تعيد تقييم إدراكك لـ "الاتجاهات الجديدة" فى المجتمع، وكيف أنها قد تؤثر على سلامتك الخاصة.
 
فى هذه - المشاركة الموجودة على اليوتيوب - شرح لنا "مروان" إدراك "اللاسييميترية No – Semitars" والتى تؤكد فى النهاية إلى أن الإنسان يبدو فى واقع الأمر سعيد وحزين فى آن واحد، فهو لا يحب الخروج من المنزل، لكن رغبة داخلية فى نفسك تحرضه للخروج، وتفاديا لعدم الخروج من المنزل قرر "مروان" أن يجلس فى منزله مستمتعا بحلقات مسلسلGrey's Anatomy) ) وقد أعجبته منها قصة طفل يعانى من فشل فى الكبد جراء السرطان الذى ينهشه، يقف فى انتظار الطبيب الذى يقوم بالتوقيع على ورقة تحمل أمنيته الأخيرة فى الحياة قبل أن يموت، وكانت أمنيته أن يلتقى بـ "باتمان" فجمعوا سبعة آلاف مواطن فى شوارع "سان فرانسيسكو" وخرج رئيس الشرطة يطالب بمساعدة الطفل أو الـ "الباد كيد" الذى التقى "باتمان" واستقلوا الـ "البات موبيل" وساروا فى شوارع المدينة، وقد حاربو "الجوكر والبنجوين" وأنقذوا السيدة التى كانت مربوطة على شريط الترام، بعدها ذهبوا لكى يتسلم "باد كيد" مفتاح المدينة، وليس هذا فحسب بل خرج الرئيس الأمريكى "أوباما" يقدم لهم الشكر.. كل ذلك حدث لكى يحققوا لهذا الطفل الحزين أمنيته.
 
فور أن انتهى "مروان" من تلك القصة قررا أن يتحدث مع الشركة المنظمة لهذا الحدث فى أمريكا يعرض عليهم خدماته فى حالة نزولهم إلى مصر، لكن للأسف لم يرد عليه أحد .. أحزنه ذلك كثيرا وكاد يفقد الأمل حتى شعر ما يسمى بـ"البصيص" وجرب البحث عن جمعية مماثلة فى مصر كى يعمل معها، لكن عبثا دون جدوى، شعر بغبن شديد ربما لأن الأطفال فى مصر من سيئ لأسوأ، هم أقل الأقليات فى الحقوق، بل إنهم أكثر فئة معرضة لانتهاكات يومية، أطفال لا تتعلم، أطفال تضرب، أطفال شوارع، أطفال لاتجد طعاما أو علاجا، أطفال تموت.. وبالفعل تخيل حال طفل مصرى يجلس مقيدا على سرير بفعل الأجهزة التى تخترق كامل جسده لأجل السيطرة على المرض اللعين، هو شعور غاية فى القسوة، لكن الملفت فى الأمر أن هذا الطفل مازال يحلم.. من هنا جاءته فكرة "The Wish Factory " أو "صناعة الأمنيات".
 
"صناعة الأمنيات": هى مبادرة طلابية هدفها مساعدة الأطفال فى مصر، وتنقسم إلى قسمين، الأول هو تحقيق أمنيات الأطفال من (4 إلى 14 سنة) ممن لديهم ظروف صحية تهدد حياتهم كنوع من محاكاة للمبادرة الأمريكية، لكنه شعر بأنه لم يساعد الأطفال أو تغيير الواقع الذى يتطلب ذلك، فقفز الجزء الثانى من المبادرة فى رأسه، وهو إقامة فعاليات للدفاع عن الأطفال فى مصر، بداية من حقهم فى الصحة والتربية والتعليم، وكذلك منع العنف والختان وعمالة الأطفال.
 
كنت أتصور أن أمنيات الأطفال فى مصر لن تتغير كثيرا عن نظرائهم فى العالم - يقول مروان نزيه قبل بدء فعاليات المبادرة – لأنهم يتعرضون لنفس الظروف والأفكار عن طريق الإنترنت والتليفزيون، لكن كانت الصدمة كبيرة عندما ذهبت لأستاذ متخصص فى طب الأطفال أطلب المساعدة، وبعد أن انتهيت من حكاياتى قال لى لا أريد أن أصدمك، فلو دخلت أحد العنابر المجاورة لنا لن تجد أى شىء مما يدور بخاطرك، فعادة احتياجات هولاء هى عبارة عن "مخدة أو ملاية أو أكلة ممن يسمعون عنها فى التليفزيون"، ولم أكد أصدق حتى استعنت بأستاذة متخصصة فى الطب النفسى للأطفال لمساعدتنا فى فهم عقلية الطفل وكيفية التعامل معه، وكان من أهم نصائح الأستاذة لنا ضرورة إفهام الطفل بأن الصحة ليس معناها المرض فقط، وأن كونه مريضا لايقوى على فعل أى شىء، بل على العكس تماما يستطيع فعل ما يحلم به، لكن بعد أن يقوى نفسه ويتعود على حالته الجديدة بعد المرض، أما أبرز نصائحها فكانت أن نفهم مرض الطفل وطبيتعه، ولكن شريطة ألا نتعاطف مع مرضه أكثر من فهمنا له، وفى الواقع كان سماع ذلك أهون بكثير من تنفيذه.
 
على الشاشة يستعرض "مروان" حالة الطفل "إبراهيم"، والذى يبلغ من العمر 11سنة، فى الصف الخامس الابتدائى، مريض بسرطان الدم "اللوكيميا"، أول مرة التقى فيها إبراهيم فى دار للأيتام لم يدرك أنه مريض بـ "اللوكيميا" إلى أن أعلنت الدار بأنه محجوز بالمستشفى، لحظتها شعرت أنه أنى أعرف هذا الطفل من زمن، وأنه يستحق تحقيق أمنيته وفى أسرع وقت، وعلى الفور ذهبنا للمستشفى لنجد "إبراهيم" حزين للغاية، ونظرته لنا تقول: هؤلاء أتوا لزيارتى مرة ولن أراهم بعد ذلك، وأى سؤالنا طرحناه عليه كانت إجابته واحدة يرددها فى كل مرة "أنا عاوز أخرج من المستشفى"، وفى أثناء وجودنا دخل علينا اثنان من زملائه أنهوا فترة العلاج ليربتوا على كتفه قائلين: "حانزورك تانى يا إبراهيم"، ولسان حاله يقول: لا أريد رؤيتكم مرة ثانية "أنا عاوز أخرج من هنا".
 
فى إحدى المرات كنا نلعب لعبة " سبايدرمان " التى يحبها "إبراهيم"، ووسط اللعب قالها صريحة : " لو أنا كسبت يبقى أخرج من المستشفى " لكن لو أنت كسبت .. وتوقف عن الكلام، كنت أتصور أنها أكثر حالة أو أزمة يمكن أن يتعرض لها طفل على الإطلاق - يقول مروان - لكننى كنت على خطأ، ففى المرة الثانية عندما ذهبت لإبراهيم كان حليق الشعر بسبب الكيماوي، وأول أن نظرت إليه قال لى "بقيت شبه وائل جمعة"، ولاحظت أن تأثير الكيماوى عليه أكثر مما يحتمل، فكان لايستطيع تناول الطعام والشراب ولم يذق طعم النوم، ولما سألته ماذا تريد أن تأكل؟، قال: "أريد ساندوتش مدور من ماكدونالد وبطاطس وبيبسي"، المهم أننا خرج جراء تعبه وإرهاقه فى هذا اليوم وتنتابنا حالة من الحزن والكآبة ولا نملك ماذا نفعل له.
 
عندئذا توقفنا مع أنفسنا لنفكر بصوت أعلى عن الاختلاف فى شخصية إبراهيم مريض اللوكيميا، وفى المرة القادمة أتينا بلعب كثيرة كلها عبارة عن "سبايدرمان" ففرح بها جدا، والمرة التالية كتب رسم وتلوين ومكثنا معه نرسم سويا، لكن ضحكته الصافية أثرت فى نفوسنا أكثر، وفور خروجه من المستشفى أحضرنا له ملابس "سبايدرمان" ففرح فرحا كبير وظل يرقص ويركض مصحوبا بحركات "سبايدرمان"، وبعدها توالت الزيارت التى كانت مثار سخرية إبراهيم منا جميعا، وهنا عندما نظرا للأجزاء "اللاسيمترية" فى كلامه وجدنا أننا خلقنا قصة جديدة وحدث سعيد، حيث ابتهج وزرعنا فيه حلما حتى نعرف كل أمنياته التى يمكن أن نحققها ويدرك أن مرضه جزء من الصورة وليس الصورة كلها، وهذا يؤكد أن "اللاسيمترية" فى التفكير واختيار الأحداث هى التى أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه.
 
إبراهيم طفل مريض بالسرطان - ربنا يشفيه – فلم ننظر إلى تلك الأشياء التى كانت تسبب له البهجة والفرح، ولا هو نفسه كان يدرك هذا، ولعل أبسط الأشياء التى اشتغلنا عليها هى من أعادت له روح الأمل من جديد ليصبح "إبراهيم الفرحان، إبراهيم وائل جمعة، إبراهيم الرسام، إبراهيم سبايدرمان، وأخيرا إبراهيم البطل"، فعندما يكون طفلا عمره 11 عامل يستطيع أن يكون كل ذلك فمابالك أنت ولست حزينا أو مريضا أو عاجزا أو سليما فقط، أو لست فاشلا أو ناجحا فقط .. كل ذلك أنت، واختيارك لشيئ من اختلافاتك وتترك الباقى فإنه يقلل جزءا من كونك أنت، يمكنك أن تفرح وتبتهج عندما تصنع عملا جيدا، وتحزن وتغضب وتتعصب عندما تأتى بعمل سيئ، ممكن فى شدة مرضك تساعد غيرك، وممكن تطلب منه مساعدتك فى حياتك، ممكن تفرح وتركض من الفرح مرة أخرى بعد أن كنت عاجزا، ممكن تقول لأحد لو سمحت ساعدني، أنت يمكنك أن تنجح فيما تحب وتفشل فيما لاتحب.
 
ويلخص مروان نصيحته الأخيرة لنا جميعا قائلا: أنت ببساطة تستطيع أن تفعل ما يستطيعه أو لا يستطيع عمله غيرك، كل هذه الاختلافات لو تقبلتها هى التى تستطيع إكمال صورتك كإنسان .. هكذا زرع مروان نزيه فينا الأمل فى حياة أفضل وتركنا ورحل بلاعودة .. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته بقدر صفاء روحه ودماثة خلقه، وإنسانيته التى فاضت على كل أطفال مصر وزادت من صناعة الأمل فى حياتهم .
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة