خرج فارسان من الإسكندرية أثناء الحرب الدائرة بين الجيش المصرى بقيادة أحمد عرابى، والقوات الإنجليزية مسنودة بالخديو توفيق، وتوجها من الناحية الشرقية من البحيرة، وقبض عليهما عند مرورهما بالقرب من معسكر كفر الدوار، وحسب مذكرات «الإمام محمد عبده» عن «دار الهلال - القاهرة»، تبين أنهما بدويان من قبيلة «أولاد على» بالفيوم، ووجد معهما منشورات من سلطان باشا «رئيس البرلمان» ورسائل منه إلى رؤساء القبائل وبعض الضباط يدعونهم إلى ترك عرابى، والالتحاق بالجيش العثمانى، الذى جاء لإخضاع العصاة «جيش عرابى».
وحسب الإمام محمد عبده: «اعترف الفارسان أن جنديا بحريا إنجليزيا يسمى «جيل» حمل ثلاثين ألف جنيه من سيمور «قائد الأسطول البريطانى» ليلحق بالأستاذ «بالمر» يستميل معه عربان غزة، وحمل معه رسائل من الخديو توفيق وسلطان باشا إلى رؤساء العربان فى الشرقية، وأن مبلغا لا يقل عن المبلغ السابق سيصحب القائد الإنجليزى إلى الزقازيق».
تلقى «محمد عبده» خبر هذه القصة يوم 27 أغسطس 1882، ويذكرها فى مذكراته كدليل على الخيانة، التى أدت إلى هزيمة «عرابى» فى ثورته ضد الخديو توفيق، وانتهت باحتلال الإنجليز لمصر، ويعطى صلاح عيسى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن» عن «مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب» بعداً عميقاً لقصة الخيانة فى هذه الثورة بسرده قصة «بالمر» و«جيل» ودورهما فى شراء العربان بالرشاوى. كان «إدوارد بالمر» أستاذاً ورئيساً لقسم اللغات الشرقية بجامعة كمبريدج، وكان «جيل» ضابطاً فى المخابرات البريطانية، وكانت النية معقودة لدى الإنجليز أن يهاجموا مصر من ناحية قناة السويس.
ووفقا لكتاب «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا لمصر» تأليف «ألفريد سكاون بلنت»، مراجعة «الشيخ محمد عبده» عن «دار الآداب - القاهرة»، فإن وزارتى الحربية والبحرية فى إنجلترا رأت أن تمهد لمهاجمة مصر من ناحية قناة السويس بالرشوة بين بدو الشرق لاستخدامهم ضد «عرابى»، ووقع الاختيار على «بالمر» للقيام بهذه المهمة وحسب «بلنت»: «كان عارفاً باللغة العربية ممتازاً فيها، ويعرف أيضاً البقعة، التى يعيش فيها هؤلاء البدو، لأنه كان فيما سبق عضوا فى بعثة استكشاف فلسطين»، ووقت عرض المهمة عليه كان وفقا لـ«بلنت»: «يعيش فى لندن فى حالة إملاق يستعين بالصحافة على شؤون العيش، وزاد عسره زواجه الحديث، وفى يوم 24 يونيه ذهب إلى المكتب السرى بوزارة الحرب البريطانية، وفيها تم عرض المهمة عليه وتقديم 500 جنيه للمصاريف الابتدائية، وبدأت مهمته فى أوائل يوليو 1882، وفقا لبرنامج وضعته وزارة الحرب البريطانية».
بدأ البرنامج بذهاب «بالمر» إلى الإسكندرية للاجتماع بقائد الأسطول البريطانى «سيمور»، وحسب صلاح عيسى: «ذهب من هناك إلى يافا مرتدياً اللباس الشرقى، ومتحدثا العربية، ومتخفيا فى اسم «عبد الله أفندى»، ومن يافا يذهب إلى غزة، ثم إلى السويس، وفى هذه الأثناء يتعرف على قبيلتى «الطياحة» و«الترابين»، وحسب صلاح عيسى فإن البدوى الذى معه قدمه على أنه ضابط سورى مسافر إلى مصر و«كان ينتقل من مضارب قبيلة إلى مضارب أخرى، وينشد شعر المتنبى فى ضوء القمر، ويوزع الهدايا التى حملها معه، ويناقش بدأب وصبر المشايخ فى قيمة الرشوة، التى يطلبها كل منهم، فإذا اتفق مع قبيلة أكل معها عيش وملح على أن يحمى كل منهما الآخر»، وفى نفس الوقت كان «جيل»، الذى اتخذ لنفسه اسم «الشيخ» محمد يواصل مهمة مشابهة فى محافظة الشرقية ونجح بالاشتراك مع «سلطان باشا» و«أحمد عبدالغفار» و«السيد الفقى» من أعضاء النواب فى إغراء مسعود الطحاوى بخيانة عرابى، وتناول ثمنا لخيانته مبلغا يصل إلى خمسة آلاف كرون نمساوى.
انتقل «الشيخ محمد جيل» إلى السويس فى أغسطس ومعه عشرون ألف جنيه ليسلمها إلى «بالمر» ليدفعها لمن تعاقد معهم شفهيا على الخيانة، وفى الإسماعيلية يكلف بمهمة أخرى وهى تدمير أعمدة التلغراف فى صحراء سيناء كلها لمنع المراسلات البرقية بين جيش عرابى، وبين تركيا وسوريا. وفى مساء مثل هذا اليوم «6 أغسطس 1882» اجتمع سيمور مع محافظ السويس وحضر «بالمر» المقابلة ليترجم الحديث بينهما، ثم حضر بعد ذلك مأدبة العشاء، التى أقامها «سيمور» تكريماً للمحافظ، وبعد العشاء عقد اجتماع خاص حضره «جيل» و«سيمور» و«بالمر» واتفقوا فيه على أن يسافر الاثنان فى صباح الغد إلى الصحراء لتسليم النقود إلى البدو، وتدمير وإحراق أعمدة التلغراف، ثم شراء أكبر عدد من الخيول والجمال.