حازم حسين يكتب: اشتباك.. الواقعية المُضلِّلة وسينما الحشد المجانى

الأربعاء، 03 أغسطس 2016 07:00 م
حازم حسين يكتب: اشتباك.. الواقعية المُضلِّلة وسينما الحشد المجانى نيللى كريم فى مشهد من فيلم اشتباك

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"الغضب بيعمى عنينا يا جماعة، إياكم والغضب"، لا أدرى لماذا ظلت هذه الجملة تلحّ عليّ، طوال مشاهدتى لفيلم "اشتباك" للمخرج الشاب محمد دياب، يجترّها ذهنى بصوت الداعية الإسلامى، وأحد رواد التنمية البشرية المغلّفة بـ"سوليفان" العقيدة المتمدّنة المتعصرنة، معز مسعود، وهو للمصادفة - البحتة أو المقصودة، أو التى استدعاها لا وعيى سيّء النية - أحد منتجى الفيلم وصناعه وحاملى رسالته، ومن المشهد الافتتاحى للفيلم حضرت الجملة وحضر معز مسعود، ومع نهاية الفيلم ونزول التتر تقدم الداعية الشاب ليحتل مقدّمة الصورة، ويهيمن بروحه وصوته على شريط الصوت وآخر عطايا الموسيقى وجغرافيا الأسماء العديدة ضمن قائمة الطباخين الذين أعدوا الوجبة، ربما وفق ما يحب معز مسعود ويشتهى، لتتوارى العناصر الفنية سريعة التشكّل سريعة الذوبان والتلاشى، وتحضر الرسالة الكليشيهية معدومة الأثر وخفيفة السبك وعشوائية الطرح والعرض والتدبيج.

أعرف يقينًا أن من الظلم البيّن إحالة الرسالة الإبداعية إلى سياق سوسيوثقافى يخص صنّاعها، وحصر التلقى فى هذه المعادلة، حتى وإن كانوا الحاكمين الأساسيين فى الصنعة، وعلى الساعى لقراءة موضوعية أن يُقيّم العناصر الخارجية والداخلية وفق معيار فنى "أدواتى" بالأساس، إيمانًا بأن النص الإبداعى نص مغلق على نفسه بدرجة ما، وإن تقاطع فى دوائر وأقواس مع أشخاص وأرواح وسياقات مفتوحة على العالم، ولكن من الملاحظات المهمة لى شخصيًّا أن يتصدّى لإنتاج فيلم سينمائى واحد من الدعاة الدينيين، عصريين كانوا أم رجعيين، وأن يكون هذا الداعية صديقًا ورفيق عمل لمخرج الفيلم ومؤلفه طوال سنوات، فما بين مشاركة محمد دياب فى إعداد وكتابة ثلاثة برامج تليفزيونية فى رحلة معز مسعود القصيرة، منها برنامج ذو نكهة درامية لم تختلف عن "اشتباك" فى أطره وطرحه ومعالجته للشخصيات الإنسانية وهمومها، وبين حضور أموال "معز" فى إنتاج شريط محمد دياب، علامات استفهام عديدة حول فلسفة الطرح وأدوات سبك الرسالة ووسائل تعليبها، فالإنتاج دائمًا يحكم، والأفكار تسير في ركاب الأموال بصورة من الصور، ولكن على المتلقي الموضوعي والباحث عن هامش الفن والإبداع أن ينحّي هذه المعادلة جانبًا، ويترك الفرصة للشريط السينمائي ليتحدث عن نفسه، ويلقي مفاتيحه لطارقي بابه، وهو ما غالبت ملاحظاتي وفعلته، منتظرًا حديث محمد دياب بأموال معز مسعود، ولكن بمنطق السينما والإبداع وماكينة الفن السابع ذات النكهة الخاصة.

اشتباك.. البداية العادية والنهاية المصطنعة


يبدأ محمد دياب شريطه السينمائى بـ"شوت" طويل نسبيًّا من داخل عربة ترحيلات، يسيطر على الصورة ثبات كامل في عناصرها البصرية، تاركًا الكاميرا لحالة تأثر حرّ بمسار العربة، وسامحًا لشريط الصوت أن يستدعى مؤثرات الخارج بشكل حرّ نسبيًّا، وإن كان تحت السيطرة نوعًا ما، وهو من هذا المنطلق يؤسس لشريطه بصريًّا ورؤيويًّا أيضًا، مختارًا الانحياز إلى هذه المساحة المحدودة أمام اتساع العالم، الانحياز إلى طبيعة المكان ورمزيته، ورصد الشارع والناس ودراما الواقع من داخل العربة، أو موضعة العربة وعين الراوى "المخرج" من داخلها كمركز للعالم، لتكون العين الراصدة سابقة على المشهد المرصود، أو على الوجود البشرى فى الشريط السينمائى، ما يمثّل مفتاحًا مهمًّا لإعادة تركيب الشريط بنائيًّا ودلاليًّا، سواء قصد "دياب" هذا أو لم يقصده.

المفتاح الأهم فى ضربة البداية تتمثل فى جملة مكتوبة مع انفتاح عين الرصد البصرى، مفادها أن مصر شهدت مظاهرات بعد ثورة 30 يونيو من عناصر الإخوان الرافضين للانتقال السلمى للسلطة، وهى الجملة التى لا تحمل أيّة دلالة سينمائية، وربما لم تُترجم عمليًّا على امتداد الشريط، لعلّها جاءت هروبًا من تفسيرات سياسية ما، أو من مزايدة محتملة على صنّاع الفيلم، ولكنها وفق معطيات فنية تمثّل أولى سقطات محمد دياب العديدة فى شريطه، أولاً لأنها علامة مجانية لا تحمل أى دلالة، إذ لا يكتسب السياق ثراء وجمالا بحضورها ولا يختل برفعها، ومنطق العلامات المجانية هذا يحضر كثيرًا على امتداد الفيلم، ولكن المشكلة الأبرز في الجملة أنها مثلت أول نقض لغزل الواقعية التي حاول "دياب" تلبّس ثوبها، أو إيهامنا بتلبّسه، لأنها حملت رصدًا وفرزًا وتقييمًا للشريط قبل بدايته، للشخوص قبل عرضها، للدراما قبل تناميها، ولا يمكن غفرانها حتى بمنطق متجاوز من جانبى بأن المخرج الشاب تلتبس عليه المفاهيم وتختلط المدارس، فيتخلّى عن واقعيته التسجيلية مدّعية الحياد، إلى واقعية نقدية أو "واقعية اشتراكية" إن جاز التعبير، لأن هذا الوقوع والتداخل المنهجى نفسه لا بدّ من تأسيسه على أرضية تكنيكية، تثير الدراما بواعثها ومنطلقاتها، وتحضر آليات فرزها وعناصر قوتها وضعفها من داخلها، لا من توجيه استباقى يتخطّى منط الدراما وأدواتها التعبيرية، وهنا يضعنا محمد دياب أمام أول علامة عشوائية مجانية فى شريطه السينمائى، لا نعرف هل تعود للجهل بالمنهج أم لمراهقة فى الفكر والطرح، أم للكيد لفصيل أو محاباة فصيل.

من البداية المتواضعة والتأسيس المهتز لـ"اشتباك"، يبدأ محمد دياب سرد شريطه السينمائى راصدًا الواقع المصرى بعد 30 يونيو، مفتتحًا الحضور البشرى بتجمع للشرطة يمسك بصحفيين يعملان فى وكالة أجنبية، تتطور الأمور ويتم دفعهما داخل عربة الترحيلات، لتتقصى الدراما طوال ما تبقى من عمر الشريط مسار العربة وعلاقتها بالواقع المحيط بها، رجال الشرطة، وتجمعات المظاهرات الإخوانية، والكر والفر والعنف المتبادل، وما توفره هذه التفاصيل المتلاحقة من زوار جدد للعربة، من المؤيدين والمعارضين، الإخوان ورافضيهم، وحتى من جنود الشرطة الذين يحتجون على بعض الممارسات فيتم الزج بهم للداخل المظلم، وعلى هامش هذا تتداخل أرواح الشخصيات فى العربة وتتقاطع رؤاهم وأفكارهم، في رصد سريع وعابر لأفكارهم المسطحة وصورهم النمطية ومواقفهم الدوجمائية، رصد للأفكار المسطحة بمنطقها وخفّتها، دون حفر أو إيغال في العمق، وصولاً إلى الذهاب بالعربة ومن فيها من التيارات والمذاهب والمشارب المختلفة إلى المجهول، ذهاب مجانى إلى المجهول، ونهاية مصطنعة فرضتها الحاجة للهروب من الزحام المطاط والسرد القابل للامتداد إلى ما هو أبعد، ولم ينذر بها تطور الأحداث ولم يؤسس الفيلم رهانه عليها، مجرد ادّعاء رمزية ذات دلالة ما، لإضفاء قدر من العمق غير المتوفر في بناء العمل، وطرح نهاية مليئة بالمفارقة الصادمة في مستوياتها القصوى، غير الواقعية بالمرة، لتعميق الأثر النفسي وفق منطق الدعاة الدينيين، أو دعاة التنمية البشرية.


بين الأيديولوجيا وحسابات السوق.. تضليل الواقعية ومجانية العلامات


من المشاهد الأولى يسوّق الفيلم نفسه في إطار الرصد الواقعي، التسجيلي بشكل ما، وفي سبيل هذه المهمة يحشد محمد دياب كثيرًا من التفاصيل والعلامات والموتيفات، الدرامية والبصرية، التي تؤكّد على هذا الانحياز، بدءًا من اختيار نماذج إنسانية شائعة في المحيط الاجتماعي، والوقوع على بعض التفاصيل الواقعية في تعامل الجهاز الأمني مع التظاهرات والاحتجاجات، أو تعامل عناصر الإخوان مع الشارع وفكرة التعبير عن الرأي، ثمّ مفردات عربة الترحيلات وشكل الفضاء العمراني، ومستويات خطاب الشخصيات، وحالة الضيق والشحن والتوتر والاهتزاز التي تسيطر على الكادرات البصرية، وتوتر وفوضى شريط الصوت، ولكن الحقيقة أن "دياب" في كل هذا الحشد يقترب من الواقعية ولا يقترفها، أو يقترفها بمعنى مغاير ومضلِّل نوعًا ما، فثمة خيط بين رصد تفاصيل الواقع بشكل عشوائي مسطّح، أو حتى انتقائي موجّه، وبين الإيغال في الواقع والتعبير عنه والاشتباك معه بصورة موضوعية ناضجة، وهو الخيط الذي يبدو أن محمد دياب لم يتمكن من رؤيته بوضوح، فتعثرت خطواته فيه، ليتركنا أمام كمية ضخمة من العلامات والرموز البصرية والسمعية، على مستوى الكادرات والإشارات والإيماءات، أو الهتافات وجمل الحوار والمؤثرات المسموعة، التي لا تفضي إلى معنى يمكن القبض عليه، أو تفضي إلى معانٍ كثيرة متضاربة، ربما صنعتها الرغبة في قول كل شيء، والتي كثيرًا ما تفضي بغير المدرّبين والناضجين إلى الفشل في قول أي شيء.

من هنا حشد "دياب" تفاصيل كبيرة وصغيرة لا حصر لها، وأعاد التأكيد عليها أو منحها ثقلاً بصريًّا وحضورًا زمنيًّا كبيرًا على الشريط، السيارة وتكوينها والنقوش والعبارات الماثلة على لحمها المعدني البارد، أشكال الناس وهيئاتهم، الصليب الذي يظهر على يد إحدى الشخصيات، وزجاجة المياه التي يمنحها جنود الشرطة لـ"نيللي كريم"، وأتوبيس النقل العام الذي يمر إلى جانب العربة مليئًا بالركاب المشحونين فيه كما لو كانوا في سيارة مماثلة، والساعة المزوّدة بكاميرا صغيرة والتي لم ينتبه لها رجال الشرطة في يد مراسل الوكالة الأمريكية، والهاتف المحمول في حذاء فتى العشوائيات الملتحق بركاب العربة، و"البشلة" المخزونة في فم رفيقه، و"الطاسة" التي يرتديها الشاب الإخواني السمين فوق رأسه، وكثير كثير غيرها من العلامات التي ومضت وانطفأت سريعًا، لم تحضر وفق آلية رصد موضوعي وواسع للحياة، إذ تجاهلت الكاميرا نفسها تفاصيل أخرى أكثر حضورًا واقترابًا من دائرة الحدث الدرامي، فلم تتعمق في رصد تكوينات الشخصيات في مستوياتها الجسدية والاجتماعية والنفسية، أو رصد علاقات وتفاصيل عالم الجنود الواقفين على حدود العربة، والموزّعين بين هموم وتداخلات أكثر تعقيدًا من هموم المحبوسين داخلها، كما لم تحضر هذه التفاصيل وفق منطق بنائي ذي دلالات فنية أو بصرية أو درامية، فقط حضرت وفق شهوة مجانية لقول كل شيء، ورغبة مسطّحة لاصطناع حالة من العمق والثراء، لم يتم البناء عليها لتأكيد هذا العمق، أو الاستفادة مما توفره من فرص لإعادة قراءة الشخصيات وتشبيك دواخلها وهمومها كما سهّلت عربة الترحيلات تشبيك واقعها ومصائرها.

وفق هذا المنطق لم يُحسن محمد دياب توظيف عناصره البصرية، ربما لقصور فى رسم ملامح السيناريو وتعميق مساراته والحفر فى وعى شخصياته وتفاصيل أحداثه الصغيرة والهامشية، قبل الأحداث الكبيرة والمفصلية، بل تورط السيناريو فى مناطق عديدة فى بتر كثير من المسارات التى كانت تحمل طاقة تعبير ودلالة خلاّقة، أو تشويهها والابتسار فى التعاطى معها، هكذا جرى التعامل على علاقة الطفل الصغير المسيحى والفتاة الإخوانية ونظراتهما المتبادلة، والتعامل مع اكتشاف أحد شباب العشوائيات للعلاقة العاطفية بين صديقه وأخته، وعلاقة مصور الوكالة الإخبارية الثورى بزميله المحرر الأمريكى من أصل مصرى، وعلاقة الشيخ المتطرف بالممرضة السافرة مكشوفة الشعر، وعلاقة الشاب الإخوانى السمين بالمجتمع المحيط فى العربة وتوزّعه بين الانتماء الإخوانى والروح الاجتماعية الوثّابة المحبة للفن والسخرية، وأيضًا علاقة الشقيقين اللذين قدّم أحدهما علاقته بالجماعة على علاقته بشقيقه، وغيرها من العلاقات والمسارات الدرامية التى لم يهتم السيناريو بالحفر فيها أو الاستفادة من طاقتها الدرامية والإنسانية، ربما لأنه ينطلق منذ مشهده الأول باتجاه وجهة واحدة ومحدّدة مسبقًا، كان من الضرورى لقاء الحفاظ على تحديدها والوصول المباشر لها، أن يتغاضى العمل عن تفاصيل مهمة وبراقة، وأن يدوس أعناق تفاصيل أخرى، وأن يُنمّط ويُسطّح شخصيات، ويلغى شخصيات أخرى، ويستدعى نماذج ثالثة استدعاء هامشيًّا، يصنع الرصيف الملائم للعبور إلى النهاية المختارة، هكذا وفق منطق يجبر الدراما على الإذعان، ويفرض عليها اشتراطات خارجية، لا تشعر أنها نابعة من داخل العمل وعلاقاته، أو أنها تأتي استجابة لاشتراطات وتسبيبات موضوعية ووفق مثيرات داخلية وخارجية وتفاعلات واضحة في سياقات منظورة.

المستوى الذى تورّط فيه شريط محمد دياب من التضليل، أو الواقعية المضلّلة، أنه اعتمد الاستعانة بتفاصيل واقعية جدًّا فى صناعة أثر بصرى ونفسى توجيهى وإحالى، والمشكلة الأكبر أن هذا التوجيه أخذ أبعادًا متضاربة في كثير من المناطق، فمن الاستناد إلى تفاصيل وشحنها بصريًّا وشعوريًّا بما يؤكد على ملائكية الجهاز الأمني وشيطنة الإخوان، إلى الاستناد على تفاصيل مقابلة وشحنها أيضًا للتأكيد على صدق الإخوان ونقائهم ومعاناتهم مع غطرسة الأمن، تداخل وتضارب ليس ابنًا شرعيًّا لعشوائية الواقع وتناقضاته، ولكنه ابن للرقص على السلم، والرغبة في إرضاء كل الأطراف، وتعمية الطرق، رغبة في إعادة إنتاج نص أيديولوجي يحفظ الصراع وفق حالته القائمة، لأنه أفضل الصور لصيانة الدولة والحفاظ على ناسها في تنوعهم، لا يهم صدق الرصد والطرح، أو حقيقة الانحياز في مواجهة دراما العالم، خاصة أن ما من واقعية محايدة في أي طرح، فني أو غير فني، فانحياز محمد دياب إلى هذه الحكاية، واختيار عربة الترحيلات، وصراع الإخوان والدولة، واختيار الرصد من داخل العربة وخلف شبابيكها، هو انحياز واضح، ولكن المشكلة أن يحاول المنحاز في وقت لاحق أن يثبت لك أنه محايد، فيفسد في الحياد ويضع الحبر على الجميل فيما انحاز فيه، هذا بالضبط ما ورّط محمد دياب في استسهال وتلفيق وسذاجة كبيرة في الطرح، وفي التجسيد، كأن تنحو للتأكيد على إنسانية الجاهز الأمني في تتبع عملية إطلاق رصاص من أحد المسلحين بينما يتعمد أفراد الأمن المغامرة والصعود وإطالة وقت تبادل النار وسقوط ضحايا من جانبهم، كي يمسكوا المجرم دون حاجة لتصفيته برصاصة، بينما الحقيقة الواقعية أن إنسانيتهم تتحق في هذه اللحظة بالمبادرة وتصفية المجرم، وعليك أن تصدق واقعية محمد دياب المسطّحة هذه، كما عليك أن تصدق أيضًا أن عربة ترحيلات تسير في القاهرة يقودها شاب ملتحٍ لعدّة ساعات، دون أن يمر بما يعوقه عن استكمال مساره، من الأمن أو المواطنين، بل وينجح في الإفلات بهذه السيارة الثقيلة المحشوّة بالمحبوسين من مطاردة سيارتين خفيفتين من سيارات الشرطة، وأن تصدق أيضًا أن كل سيارات الترحيلات تمر إلى حيث معسكرات إيداع المقبوض عليهم بينما تظل السيارة التي اختارها محمد دياب وحدها بصحبة القوة الأمنية تجوب شوارع المدينة وتتوقف في ميادينها وتزور مظاهراتها وتجمعاتها لمدة قد تتجاوز 12 ساعة، وفق الزمن الواقعي للأحداث، علينا أن نصدق واقعية محمد دياب بغرائبيتها وتعسّفها في اختيار الأفكار وتجسيدها وفرضها واستدعاء العلامات المجانية الكثيفة لدعمها والتأكيد عليها، علينا أن نصدق كي تتحقق الصدمة الأخيرة في النهاية المصطنعة، حينما نذهب جميعًا إلى الجحيم.

الأسانسير وعربة الترحيلات.. محمد دياب فى جلباب صلاح أبو سيف


الرهان الأكبر الذي واجهه فيلم "اشتباك"، وأعتقد أن محمد دياب نجح فيه بدرجة كبيرة، هو رهان اللعب تحت الضغط، أو اللعب داخل فضاء محدود، دون أن تفقد الطبخة السينمائية نكهتها وقدرتها على إثارة شيء من الدهشة والمتعة والحفز العقلي، فعبر حكاية يدور أكثر من ثلاثة أرباعها داخل عربة الترحيلات، وترصد الكاميرا الربع الباقي تقريبًا من داخل العربة، مع استثناءات نادرة بخروج أو اقتراب من الخروج، نجح محمد دياب في صنع شريط متماسك بصري، وأكّد على قدرته على السرد الدرامي المتّزن، وعلى الإمساك بمفاتيح الإيقاع السينمائي برهافة واقتدار جيدين، دون أن يفلت من يديه الميزان الحساس لصنع دراما حيّة متصاعدة، أو التورط في الترهل والاستطراد والضوضاء السردية، وردجة نجاح "دياب" في هذا الرهان كبيرة قياسًا على أن "اشتباك" التجربة الثانية له إخراجيًّا، وكان من المقبول أن يفقد حساسيته البصرية والزمنية في تعاطيه مع الحدث داخل علبة ضيقة، ولكن رغم إفلاته من الفشل في هذا الرهان، تورط محمد دياب في استدعاء تأثيرات خارجية لموازنة عالمه البصري، مؤسّسًا المعمار الأساسي لشريطه على رهانات سابقة، وتحديدًا يمكننا الحديث عن رهان صلاح أبو سيف في شريطه المهم "بين السما والأرض"، الذي انحاز إليه "دياب" أو تأثر به أو أعاد إنتاج مفاتيحه الأساسية وأعمدته الحاملة، في صناعة عالمين متداخلين يؤثران في بعضهما رغم الفواصل، واختيار "بالتة" من الشخصيات التي تمثل رموزًا أو اختزالات لدوائر اجتماعية وسياقات معرفية وإنسانية متعددة، والاشتباك النفسي مع العالم الخارجي مع مطالبته بالحل والدعم لتجاوز الأزمة، إضافة إلى قدر ما من تقنيات صناعة الصورة واختيار الكادرات البصرية وتحريك الكاميرا، ورغم ضيق عالم "أبو سيف" الشديد قياسًا لعالم دياب، وتمتع الأخير بفرصة زائدة تتمثل في الانفتاح الجزئي لعالمه على الواقع الخارجي، عبر شبابيك ومنافذ عربة الترحيلات، وما يوفره هذا الانفتاح من اتساع بصري وإمكانات تعبيرية، كان "الأسانسير" أكثير توفيقًا في طرحه قضيته وفضح شخصياته ونسج مساراته الدرامية بشكل أكبر من عربة الترحيلات، كانت صورة صلاح أبو سيف أكثر جمالا وإزعاجًا ونقلاً للضيق والتوتر، كان فضاؤه الدرامي المحدود أكثر اشتباكًا مع العالم الخارجي المنفصل عنه تمامًا، وكان تأسيسه لنهايته أكثر واقعية وطبيعية، دون تعسف أو اصطناع، ولكن ظل أثره واضحًا بقوة في شريط محمد دياب وكادراته وتقطيعاته ونسجه للعلاقات الإنسانية داخل عالمه المختار.


اشتباك.. قراءة جمالية في شريط سينمائي


بعيدًا عن القراءة المضمونية أو البنائية لجغرافيا السيناريو، والعناصر النفسية والذهنية والأيديولوجية التي ربما تكون قد وقفت وراء تعاطي محمد دياب - الكاتب أيضًا - مع توقيعه بصريًّا، يحمل المنتج النهائي في صورته السينمائية/ الجمالية، كثيرًا من الإضاءات والملاحظات، فالفيلم ورغم كل ما سجّلته من ملاحظات ومآخذ جيد بدرجة كبيرة، حقق حدودًا كبيرة من اشتراطات الإتقان والجمال وحُسن الصنعة، ولكنه تورّط في مزالق وهنات عديدة.

أثبت محمد دياب عبر شريطه السينمائي أنه يجيد الحكي، ويجيد التعامل مع أدواته الإخراجية، ولكنه لم يتمكن في حصة كبيرة من الشريط من صنع صورة جميلة، لا أقصد صورة مهندمة ومرتبة ولا تشبه فوضى واقعه، ولكن أقصد إتقان صنع الصورة الفوضوية المرتبكة بقدر أكبر من الجمال والتماسك، الاهتزاز الذي نقلته الصورة صاحب اختيارها ورسمها وصناعتها، فظهر "دياب" في كثير من مناطق الفيلم حائرًا وعاجزًا عن تحريك عينه/ كاميرته، أو توليد انتقالات بصرية طبيعية ومريحة، فلجأ إلى موضعة الكاميرا وتحريك الممثلين بالتبادل، كما في مشهد دورانهم على باب السيارة للتنفس، ووفق هذه الورطة حملت الصورة طاقة الضيق والارتباك والفوضى، ولكنها لم تحمل طاقة الجمال والأثر البصري المصنوع بعناية، يتبدّى هذا بشكل أكبر في الإضاءة المصاحبة للصورة، فطوال مشاهد النهار لم نلحظ مأزق محمد دياب في التعامل مع الإضاءة ومستويات تدفق النور في كادراته البصرية، كانت الأمور متزنة نوعًا ما، وهذا ما يوفره جو النهار بقدر ضئيل من الطاقة والتعامل الجيد مع مصادر الإضاءة، خاصة مع لوكيشن محكم وقابل للسيطرة كعربة الترحيلات، ولكن مع وصولنا للمشاهد الليلية ظهرت المشكلة، فلم يتمكن "دياب" ومدير تصويره من صنع صورة واقعية مقنعة، تخلص لإظلامها وتخلص لمنطقها السينمائي البصري الجميل، فتورط في كثير من المشاهد في حالة إظلام غير مبررة وخصمت كثيرًا من عناصره التعبيرية، خاصة مع رهانه في هذه المساحة الزمنية على الاقتراب من دواخل شخصياته والرهان على حالاتهم النفسية، بعد أن استهلكهم الصراع النهاري الطويل، وفي مشاهد أخرى حاول "دياب" أن يصنع صورة مرئية وواضحة، فتورط في إضاءة مصطنعة وغير واقعية، يتسرب فيها النور بقدر خارج على السيطرة، وبلمسة تغيب عنها الاحترافية في التحكم في مصادر الإضاءة.

شريط الصوت عانى كثيرًا من المشكلات، على مستوى التصميم أو على مستوى التنفيذ، فوسط احتفاء كبير بالتورط المباشر في الواقع، جاء شريط الصوت مصنوعًا بعناية فيما يخص مدخلاته، والأصوات المسموح لها بالوصول إليه، فكان أقرب إلى محمية طبيعية تحت السيطرة، محسوبة الإيقاع والاتزان في شطرها الأكبر، ومنفصلة بدرجة كبيرة عن الغلاف المحيط بها، كما شابتها عيوب التنفيذ التي غيّبت جانبًا من جمل وحوارات بعض الشخصيات، وإلى جانب هذا التغييب حملت تلك المشكلة التقنية أثرًا دلاليًّا ربما لا يقصده "دياب"، إذ وضعت هذه الشخصيات في مواضع ضعف، وخصمت من حضورها الدرامي، بالخصم من تحققها على شريط الصوت، حتى وإن كانت متحققة بالدرجة الأكبر والكتلة الأكثر وضوحًا على شريط الصورة، وفق منطق التناسب بين عناصر الشريط السينمائي، ومستويات الحضور والتحقق في فضائه بكتلة الصورة وكثافة الصوت، إلى جانب تورط الشريط في مناطق صمت طويل لا مبرر لها، صمت فيها الواقع الخارجي وصمت محمد دياب وشخصياته، ووقفت الدراما عاجزة عن توليد أحداثها وانفعالاتها في انتظار مثير مرتب وآت بشكل غير طبيعي.

الموسيقى جاءت في أغلبها معبّرة بدرجة كبيرة، ولكن سيطرت عليها حالة من الشحن العاطفى فى مناطق عديدة، محتفية بالآلات الوترية الناعمة، والجمل القصيرة الشجنية، صانعة أثرًا نفسيًّا رومانسيًّا، ربما لم ينسجم في كثير من المناطق مع ماكينة الطرح الواقعي، ولم يناسب مستويات الحدث الدرامية في مناطق أخرى، أو يكثف حالة التداخل النفسي بين السياقات الإنسانية الممتزجة في الصورة السينمائية امتزاجًا متعدّد الخطوط والمستويات، بما يحتاج لامتزاج موسيقى بولوفوني، تتداخل فيه ألحان ومستويات نغمية أكثر ارتباكًا وإرباكًا وتوترًا وأقل صفاء ووضوحًا وتخييلاً.

المونتاج كان موّفقًا بدرجة كبيرة في الحفاظ على إيقاع متماسك للفيلم، يوازن بدرجة محسوبة بين العالمين، الداخلي والخارجي، ويحفظ الصراع في درجة اشتعاله وتوتره، محقّقًا قدرًا من الانتقالات السلسة في مناطق كثيرة، ولكنه عانى من قدر من الترهل في بعض المشاهد والنقلات، واستعان بالإظلام التام غير المبرر في أكثر من موضع، وربما لم يكن موفقًا بدرجة كبيرة في تحقيق مشاهد الاشتباك الحقيقي بين الأمن والمتظاهرين، فخرجت عادية وسياحية ولا تحقق الرهان الأساسي الذي اختاره الفيلم طرحًا ومسارًا واسمًا.
أداء الممثلين في وجهه العام جاء عاديًّا، الشخصيات التي رسمها السيناريو مسطّحة ولا توفر مساحات من الثراء النفسي والدرامي الكافيين للحفر التمثيلي والتجويد وتقديم شخصيات حقيقة ناضجة، لهذا سيطرت الانفعالات اللحظية والانفعالات المبالغ فيها، أو التبسيطية، على أداء أغلب الشخصيات، ولكن وفق الرهان التنميطي للسيناريو أجاد أغلب الممثلين في تحقيق المطلوب منهم بصريًّا ونفسيًّا، فقط تألقت نيللي كريم وأحمد مالك بدرجة ما، قياسًا على مجموع المشاركين، لم يكن حضورهما لامعًا ومدهشًا بالدرجة الأخاذة الخاطفة، ولكنه كان مؤثّرًا وذا نكهة خاصة، بينما جاء أداء هانى عادل باردًا، ومثله طارق عبد العزيز وباقي العناصر التمثيلية.

في النهاية، يمكننا القول إن "اشتباك" شريط سينمائي جيد نوعًا ما، يمسك بقدر من الصنعة السينمائية فلا يتورط في صناعة الملل أو كسر الإيقاع السينمائي، ولكنه يتورط في مراهقة فكرية وفنية في غير موضع، ومع محاولاته للحفاظ على توازن غير موجود، ولإرضاء مجموع غير متحقق واقعيًّا، واصطناع عمق لم تؤسس له الفكرة ولم تتحرك باتجاهه المعالجة، خصم الشريط من نفسه، وصادر على قدرته وإمكاناته وما أتاحته له كثير من التفاصيل والعناصر المتوفرة في متناوله ليتطور ويتنامى ويصبح شريطًا سينمائيًّا مهمًّا، فارتضى أن يظل في دائرة الفيلم المُسلّي، التوافقي، المحافظ على المعادلة الراهنة التي لا بديل لها، والمبشّر بالشر المستطير الذي لا مناص له، إن لم نحفظ علاقة القط والفأر القائمة، وإن حاولنا الخروج عليها، أو حاولنا إنهاءها، والمخلص تمامًا تمامًا لصوت معز مسعود مؤدّيًا الجملة الوحيدة التي يمكن أن تلخص الفيلم "الغضب بيعمي عنينا يا جماعة، إياكم والغضب".



موضوعات متعلقة
العباس السكرى يكتب: "هوس" محمد دياب مخرج فيلم "اشتباك"









مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة