«محامٍ مصرى شاب هبط على باريس فى سنة 1950 ليظفر بدرجة الدكتوراة فى القانون الدولى، وجعل قناة السويس موضوعا لرسالته، ونال درجته العلمية بتفوق لافت للنظر، ويا للمصيبة عاد إلى بلاده، مزودا بحقيبة طافحة بمستندات حصل عليها من «ملفات قناة السويس» فى باريس، هكذا صبت مجلة «جوردى فرانس» الفرنسية غضبها على المحامى الشاب مصطفى الحفناوى فى مقال نشرته بعددها فى مثل هذا اليوم «11 أغسطس 1956» أى بعد نحو أسبوعين من قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس «يوم 26 يوليو 1956»، فلماذا كل هذا الغضب؟
اقترن اسم «الحفناوى» بحدث التأميم، ففى بيان صدر منه بتاريخ 6 أكتوبر 1956، وجاء فى مقدمة الجزء الثالث من رسالته العلمية الضخمة «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة» عن «مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة» يقول: «لن أنسى قط استدعاءه لى «جمال عبدالناصر» فى مساء 23 يوليو سنة 1956، وكنت فى صميم الريف منصرفا للزراعة، ليفضى إلىّ بنبأ قراره التاريخى، وكان الخبر وقتئذ محوطاً بتكتم شديد، وكانت هذه الثقة أكبر عزاء لشخصى الضعيف».
يروى «الحفناوى» قصته مع القناة من لحظة توجهه إلى لندن على الباخرة فى صيف 1946 بدعوة من شركة «قناطر إسنا»، وكان هو محاميها، وصادفه إنجليزى استعمارى يتصدر المائدة صباحا فى الباخرة، ويقص على المسافرين أمورا عن قناة السويس بلغة جارحة لمصر وللمصريين، ويضيف: «كنت المصرى الوحيد من ركاب تلك الباخرة، فقلت للرجل ان امتياز الشركة سينتهى فى سنة 1968، وتسترد مصر قناتها، وهنا ثار المجرم، وكاد يضربنى وشاركه فى هياجه الأجانب الذين ينصتون لحديثه، وانسحبت من المائدة معتصما بالكابين باكيا من فرط الإهانة التى لحقت بى».
يواصل الحفناوى: «فى لندن، طلبت من أحد مرافقى أن يصحبنى إلى أكسفورد لمشترى كتب لأشترى كتابا عن قناة السويس، فإذا بالرجل يصحبنى إلى دار المحفوظات التاريخية التى كان موظفاً فيها، وهى غاصة بمحفوظات قديمة عن قناة السويس ويتردد عليها الباحثون، فما إن تصفحت أول ملف إلا وقررت فورا أن ألتحق بجامعة أوروبية لدراسة القانون الدولى دراسة متخصصة وأعد رسالة علمية عن قناة السويس وأدافع فيها عن حق بلادى».
من هذا الموقف الوطنى بما حمله من دراما بدأت رحلة «الحفناوى» نحو إنجازه العلمى الضخم، فذهب إلى باريس وقدم إليه الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية وقتئذ خدمة جليلة بتعيينه مستشار صحفياً للسفارة المصرية فى باريس، وكانت حيلة سرية ليتمكن من خلالها تحت ستار دبلوماسى من الاتصال بشركة «قناة السويس» كى ينقب فى ملفاتها وفتح له رئيسها «شارل رو» ملفاتها «متوهما أنى أعد كتابا عن القناة لمصلحة شركته الاستعمارية، وكشف لى عن أوراقه، وأوقفنى على فكرة التدويل، وطلب قيام لجنة دولية تابعة للأمم المتحدة على غرار «لجنة الدانوب»، تحل محل الشركة قبل انتهاء أجل الامتياز «1968».
يشرح «الحفناوى» ماذا فعل بعد أن وقع فى يديه قنبلة «اللجنة الدولية» التى لن تعيد لمصر قناة السويس بعد انتهاء فترة الامتياز: «توجهت من فورى إلى السفارة وفى يدى تقرير بتفصيل عنوانه «مؤامرة لتدويل القناة»، وطلبت من السفارة تحذير الحكومة المصرية، وإرسال التقرير بالشفرة فورا إلى رئيس الحكومة، وأرسلت التقرير ونام فى ملفات الإهمال بوزارة الخارجية».
عاد «الحفناوى» إلى مصر بعد أن حصل على رسالة الدكتوراة بعنوان «مشكلات قناة السويس المعاصرة» من كلية الحقوق بجامعة باريس يوم «5 يونيو 1951» بتقدير جيد جداً، ليبدأ نضالاً فردياً من نوع خاص فأصدر صحيفة باسم «جريدة قناة السويس»، و«اتصل بعمال الشركة، مترافعا فى قضاياهم ضدها فى مختلف المحاكم ومختلف المنازعات، ورفض كل الإغراءات التى قدمتها له الشركة، كما لم يخضع لأى تهديدات ومطاردات فى عمله كمحامٍ لشركات دولية وتشهير بسمعته، ولهذا يقول بكل وضوح: «أعتقد أن الرئيس البطل «جمال عبدالناصر» قد انتشل سمعتى لأولادى بالتأميم»، أما رسالته العلمية الرائدة فكانت من أسلحة عبدالناصر الثقيلة فى تأميم القناة، ولهذا بحثوا عنه حتى جاءوا به إليه من أرضه بالريف، ولهذا صبت مجلة «جوردى فرانس» عليه غضبها يوم 11 أغسطس 1956».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة