سأستمر لسنوات أقرأ لمحمد حسنين هيكل وكل لحظة أقرأ له سطرا يزداد إعجابى به ليس بأسلوبه فى الكتابة وحسب وإنما بفكرة النجاح والتمكن فى مهنته والوصول إلى قمتها، فعلى مدار خمس عقود ماضية أو يزيد لا يجرؤ أحد فى الوطن العربى كله أن يدعى أن هناك من هو أشطر أو أبرع من الصحفى المصرى محمد حسنين هيكل.
هو كاتب ومؤرخ و«حكّاى» وصاحب تقارير صحفية وروايات سياسية، وهو أيضا قارئ جيد جدا للأحداث ولديه تراكم خبرات كبيرة متمثلة فى معاصرة سياسية لسنوات طويلة من عمر هذا الوطن.
لكن شطارة هيكل فى الاقتراب من الحاكم فى عهدى ناصر والسادات هى بالنسبة لى علاقة غير مفهومة، وإن كانت بالنسبة للصحفيين هى الشطارة بعينها، فمن حق الصحفى أن يكون قريبا من مصادره، لكن هيكل كان جزءا من حياة مصادره، ناصر والسادات كانا يحملان صفة الموظف العام، الذى يشغل منصب رئيس الجمهورية، ومن المفترض أن لا يفرطا فى أى حال من الأحوال فى أسرار الدولة أو يطلعا عليها أى شخص مهما كان، وهذا لا يمنع إطلاقا من استشارة أى شخص صحفى، قانونى، مهندس، طبيب، هذا شىء وارد، لكن نلاحظ أن عبدالناصر كان يجعل لهيكل مكانا فى كل الاجتماعات ويطلعه على كل الأشياء، بل وصل الأمر إلى أن أحد أفراد أسرة الأستاذ هيكل (وهم أشخاص على درجة كبيرة من العلم والخلق) قالت، إن لديها أوراقا فى مكتبة والدها تنم عن معلومات تفيد فى قضايا راهنة، وأذكر أن أحد المؤرخين قال لى على الهواء، إنه حتى هذه اللحظه لا تزال العديد من الوثائق الرسمية موجودة لدى أسرة الأستاذ هيكل وإنه شخصيا، رحمة الله عليه، كان يرفض أن يسلمها للدولة، على حد قوله.
وحيازة هيكل لهذه الأشياء يغيب فيها القصد السيئ ويسمو فيها القصد الحسن، لأنه لا يمكن أن يتخلى صحفى بهذا التاريخ عن وثائق جمعها بشطارة، وعلى مدار سنوات، ومن ناحية القانون فحيازتها خاطئة وهى من حق الدولة ولا يلام الصحفى بل يلام من سمح له بذلك.
لكن لن نقف عند هذه النقطة، بل علينا أن نتأمل فى فكرة هيكل أو المدرسة الهيكلية، نسبة إلى أسلوبه، وهنا لا أقصد أسلوبه فى الكتابة، لكن أقصد تمكنه التام لدرجة تجعل الحاكم يلجأ إليه، وسأكرر الكلمة مرة أخرى أن الحاكم هو من لجأ إلى هيكل، ورأينا هذه الصورة حتى وقت قريب، فالرجل لم يفرض نفسه على أحد وإنما يتم استداعاؤه، وبالتأكيد يستدعى لأن لديه ما ليس لدى غيره وإلا ما حرص أحد على لقائه.
لكن ما أريد إثارته فى هذه السطور هو فكرة المستشار غير المسؤول البعيد عن الوظيفة الرسمية، والذى يستعان به فى لحظة التأمل أو الذى لديه رؤية يتم الرجوع إليها، وهل يستطيع هذا المستشار صاحب المدرسة الهيكلية أن يكون مؤثرا فى قرار أو سياسة أو توجه؟ وهل يلعب الهوى دورا فى ذلك؟
علينا أن نبحث الأمر من مبدئه، أولا: هو فكرة وجود الشخص ذى الصفة الهيكلية، الحقيقة أننى أعتبر أنه من حق كل قائد أو رئيس أن يكون لديه هيكل و«اتنين وتلاتة» وهذا دليل على أنه شخص يحترم الرأى ويستشير غيره، ولا يتكبر على طلب الاستشارة، لكن أن يقتصر الأمر عند هذا الحد هو المثال الحسن، إنما أن يخول لهيكل أنه صاحب سلطة بحكم قربه من الحاكم أو أن له ما ليس لغيره فهذا هو فساد المثال، وهو أمر لا يضر صاحب المدرسة الهيكلية فحسب، وإنما يضر أيضا من مكنه من الوصول إلى هذه المكانة.
والشعب بتاعنا طيب فكثير منهم مخدوع فى أشخاص يدعون أو يتظاهرون بأنهم هيكل هذا الزمان، ويمكن تكون بعض الاجتماعات أو المؤتمرات أو الكام صورة ساعدت مدعى الهيكلية أن يروجوا لهيكليتهم الكاذبة.
وللأمانة لم نسمع عن أحد بعينه يحتل هذه المكانة فى هذا العصر، بل كل الظواهر تؤكد أن سيادة القانون على الجميع، وأذكر أن رئيس الدولة روى لنا مرة فى حديث مذاع أنه عرضت عليه قضية معينة متورط فيها بعض أشخاص من داخل الاتحادية، فسأل الرئيس: وماذا نفعل؟ فالبعض قال له: نلم الدور! فإذا بالرئيس يقول لهم: لا والله هيتحاكموا يعنى هيتحاكموا، وذكر الرئيس أكتر من مرة فى خطاباته أن الجميع أمام القانون سواء و«إن اللى يغلط هايتحاسب» ودايما الرئيس يقول «حتى لو كان رئيس الجمهورية».
إذا أنا لست ضد أن يكون هناك هيكل، لكن أنا ضد الانحراف بالمدرسة الهيكلية عن مسارها أو محاولة الإيحاء بالهيكلية والاستفادة من ذلك.
صحفى، رجل أعمال، سياسى، مفكر، أى حاجة المهم أن الكل يفهم أن الأمر لا يتعدى حدودا معروفة وواضحة للجميع، وهى سيادة القانون على الجميع، وعلى محترفى الانبطاح ألا يسارعوا فى ممارسة انبطاحهم أمام مدعى الهيكلية، بل علينا جميعا أن نؤكد أن الانحراف بالمدرسة الهيكلية أمر مرفوض فى مصر الحديثة.
الغريب فى تجربة هيكل الحقيقية أنه دفع ثمن قربه من السلطة غاليا، فقد قام صديقه الرئيس السادات بوضعه فى السجن بعد أن كان مستشاره المقرب، تطبيقا لنظرية سياسية معروفة أنه كلما اقتربت احترقت.
كنت قد انتقدت كثيرا استدعاء هيكل على أنه حكيم كل الأزمنة، لكنى وعلى الجانب الآخر لم أرَ، وللأسف، فى مصر وعلى مدار سنوات صحفيا بهذا الحجم، ولا أعرف ما السبب؟ فمدرسة الصحافة المصرية مليئة بالنجوم، لكن ليس بها قمر يضىء ليلا ويتميز عن غيره، طبعا ممكن يكون فى واحد او اتنين يخيل للبعض من العامة أو من زملائهم أنهم الأقرب للسلطة، لكن الأمر لا يعدو أن يكون فى حدود المقبول، وكل منهم يعلم تماما أنه لو تميز فى مؤتمر أو ندوة فكلها للصالح العام وليس لصالحه الخاص، ولم أرَ أو أسمع مثلا هذه الأيام عن رجل أعمال استطاع الحصول على ميزة لم يحصل عليها غيره لأنه قريب من الدولة، وهو أمر أعتقد أيضا أنه لن يكون ولن يحدث فى مصر الجديدة.
رحم الله الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، وأتمنى أن يكرم اسمه بالشكل الذى يليق بتاريخه، كما أتمنى أن أرى فى مصر مئات مثل هيكل دون المساس بسيادة القانون أو التمييز الإيجابى لأى من يحصل على لقب هيكل هذا الزمان.
خالد أبو بكر يكتب : من هو هيكل اليومين دول؟ فى تاريخنا المعاصر وعلى مدار عقود شخصيات اقتربت وشخصيات احترقت.. هل مازالت المدرسة الهيكلية مستمرة؟
الثلاثاء، 26 يوليو 2016 06:20 م
خالد أبو بكر
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
على سيد احمد على
تكريم هيكل