اشتعلت النار فى ملابس شاب له ملامح أجنبية أمام مبنى سينما «ريو» بالإسكندرية، فى الساعة السادسة والنصف من مساء مثل هذا اليوم «24 يوليو 1954».
جرى الشاب مستغيثا، وحسب محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس» (مؤسسة الأهرام- القاهرة): «أحاط به الجمهور ثم استدعى البوليس، وإذا الأمر يتكشف عن أن هذا الشاب كان يحمل فى جيبه عبوة حارقة سالت بعض محتوياتها فى الجيب فاشتعلت فيه النار».
بدأت التحقيقات فتبين أن الشاب اسمه «فيليب هرمان ناتانسون» عمره 21 عاما، يعمل فى مكتب سمسار يهودى فى بورصة القطن (بورصة ميناء البصل)، وكانت المفاجأة الكبرى طبقا لاعترافاته أنه عضو فى شبكة من اليهود، بعضهم من مصر، وبعضهم من إسرائيل، وأخذت الشبكة تكليفا بنسف عدد من المنشآت الأمريكية فى مصر، لتخريب العلاقة بين مصر وأمريكا، وبدأت مخططها التخريبى بانفجار قنبلة حارقة أمام مكتب الاستعلام الأمريكى فى الإسكندرية يوم 14 يوليو 1954، وفى نفس اليوم لحقتها قنبلة ثانية انفجرت أمام المركز الثقافى الأمريكى فى القاهرة، أما سينما «ريو» وإن كانت مملوكة لشركة بريطانية، فإنها تعرض أفلاما أمريكية فقط حسبما يقول عادل حمودة فى كتابه «عملية سوزانا- أول عملية إرهابية للموساد فى مصر» (مكتبة مدبولى- القاهرة).
«احتجت أمريكا على الحكومة المصرية بسبب هذه الأضرار التى لحقت بمنشآتها بسبب مناخ التهييج والإثارة»، حسبما يقول محمد حسنين هيكل، أما التحقيقات التى أجريت فى مديرية أمن الإسكندرية فشملت والدة «فيليب» ووالده، وحسب عادل حمودة: «انهارت الأم فى التحقيقات»، ومع دموعها وصراخها لم تتردد فى أن تقول للمحقق: «الله يخرب بيت إسرائيل»، أما الأب فكان أكثر صلابة، وأصر على أن يسجل فى محضر رسمى أنه يرفض ويشجب، ويستنكر أى عمل يوجه إلى مصر، البلد الذى لم يلفظه كيهودى، ولم يعامله معاملة المنبوذين، ولم يشعر من حوله بالغربة ولا بالإهانة، ولا بأنه يهودى، والناس من حوله لا يقولون له: «يا يهودى» وإنما يقولون: «يا خواجة».
اعترف «فيليب» فى التحقيقات على شركاء لهم بينهم «فيكتور لافى» و«روبير داسا»، وباستمرار التحقيقات ظهر أن الشبكة الإسرائيلية أوسع من هذا بكثير وأخطر، ويقول هيكل: «ظهر أن أفرادها دربوا فى إسرائيل على عمليات التخريب، ثم أرسلوا إلى نقطة تجمع فى باريس أصبحت مركز اتصالهم، ثم عين لهم ضابط فى المخابرات الإسرائيلية جاء إلى مصر بجواز سفر مستعار، وتحت اسم مستعار ليقود عملياتهم بنفسه».
وتبين أن المستشفى اليهودى فى القاهرة أصبح من أهم مراكز العمل السرى للمخابرات الإسرائيلية فى مصر بمساعدة كبير أطبائه وهو الدكتور «موسى ليتو» الذى اعترف بعضويته فى منظمة صهيونية تعمل فى خدمة إسرائيل ومكلفة بالتجسس على مصر وإحداث الاضطرابات فيها، واعترف أيضا أنه قضى فى إسرائيل ستة شهور دربوه فيها على أعمال اللاسلكى والشفرة، وأن القيادة الفعلية للشبكة هى فى يد اثنين من أخطر العملاء: شابة فى الثلاثين من عمرها اسمها «مارسيل نينيو»، وكانت تعمل فى القاهرة تحت غطاء أنها مديرة أحد مكاتب الاستيراد والتصدير، والقائد الآخر للشبكة هو ضابط عامل فى الجيش الإسرائيلى وفى مخابراته العسكرية، دخل مصر بجواز سفر أمريكى وكان غطاؤه الظاهرى أنه خبير مهندس فى شركة «فورد» لتجميع السيارات.
تم ضبط أجهزة إرسال واستقبال، وكميات متفجرات ومواد كيميائية حارقة، وجداول شفرة لم تترك لأحد مجالا للشك فى حجم الشبكة، ولا فى طبيعة نشاطها، ولا فى مدى الأهمية التى تعلقها إسرائيل على نشاطها فى مصر، ويذكر «هيكل» أن الحكومة المصرية وضعت كل التفاصيل أمام السفارة الأمريكية، وتحول ما اشتهر باسم «عملية لافون» نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلى «بنحاس لافون» إلى فضيحة فى العالم كله، ووجدت إسرائيل نفسها فى وضع حرج، ومع ذلك فإنها لم تلبث أن شنت حملة واسعة ضد الأحكام التى صدرت بالإعدام ضد جواسيسها فى مصر، ووصلت هذه الحملة مداها فى الولايات المتحدة ذاتها، وإلى درجة أن الرئيس الأمريكى «إيزنهاور» كتب بنفسه خطابا إلى جمال عبدالناصر يرجوه تخفيف الأحكام عن «هؤلاء الشبان»- رغم جرمهم- لأسباب إنسانية، واعتذر جمال عبدالناصر عن قبول شفاعة إيزنهاور.
عدد الردود 0
بواسطة:
شريف قنديل
ما أشبه الليلة بالبارحة