لا تخرج أسباب أى حريق كان عن سببين، الأول هو أن يكون الحريق «عشوائيا» والثانى أن يكون مدبرا، وفى حالة عدم تحديد الفاعل الحقيقى بدقة يمتد الحريق ليشمل قطاعات أخرى كثيرة غير تلك التى أصيبت بالفعل، فتنمو الشائعات، وتتكاثر الأقاويل، ويفعل الغموض ما لا يفعله الوقود، ولست هنا خبيرا جنائيا، ولا خبيرا فى الإطفاء، لكنى أندهش كثيرا حينما تتكاثر الأسئلة حول أسباب الحريق، فى حين أن التساؤل حول أسباب عدم حدوث الحريق أجدى وأجدر بالطرح.
فى حالة حريق العتبة لا أتوقع أية مفاجآت، وأنى أستطيع أن أؤكد تأكيدا تاما أن جميع محلات العتبة وغيرها من محلات مصر لا تتبع وسائل التأمين المتبعة فى العالم أجمع، كما أستطيع أن أؤكد أنها تعج بالمخلفات القابلة للاشتعال فى ثوان قليلة، فلا أحد يترك مخلفاته أمام بيته أو محل عمله مثلنا ولا أحد اعتاد القبح مثلنا، ولا «حكومة» أو «بلدية» تفرط فى حق الوطن فى أن يعيش نظيفا وجميلا مثلنا، فلماذا تأتى الدهشة كلما اندلع حريق فى حين أننا نوفر له أسبابه ونمنع عنه سبل إطفائه بكل ما أوتينا من همة؟
نحن نعيش فى دولة عمرها سبعة آلاف عام، وهذه حقيقة راسخة لا يدخل فيها أى نزوح لرفع الشعارات، فالحقائق شىء والشعارات شىء آخر، لكننا مع هذا لم نستطع عبر تلك السنوات الطويلة أن يمزج فى وجداننا الإحساس بالدولة، كما أننا لم نستطع أن نربى أبناءنا على أن يسلكوا السلوك الآدمى فى التعامل مع الوطن، فأصبح هؤلاء الأبناء منزوعى الانتماء، وهى جريمة متكاملة الأركان يجل أن يحاسب عليها جيل كامل، جيل خامل، لم ينظر إلا إلى تحت قدميه، فأكلته الحرائق حتى شعر رأسه.
نفس ما يحدث من حرائق ممتدة فى الشوارع يحدث أيضا فى مجتمعنا الموصوم بالكراهية، كراهية كل شىء وأى شىء، كلنا نكره «كلنا» لا نقبل الـ «آخر» ولا حتى نقبل الـ«أنا» نلقى بمخلفاتنا أمام محلاتنا ثم نسأل لماذا يتجاهلنا المارة ولماذا تبتعد الزبائن عنا؟ نعيش فى اندماج تام مع القمامة ونتساءل: لماذا لا يحبنا الآخرون؟ نصنع كل القيم السلبية ونصدرها ثم نتساءل: لماذا لا يساعدنا العالم؟ ولماذا لا يشترى منا بضاعتنا؟
صار شعار «الفساد الذى وصل للركب» قانونا، فأصبح الفساد أسلوب حياة، ندفع كل يوم من صحتنا وأعمارنا وقوت أولادنا ما نغذى به الفساد يوما بعد يوم، نعد أنفسنا «ناصحين» لأننا نتحايل على أى شىء بالفهلوة غير مدركين أن «الفهلوة ملهاش رجلين» وأنا ما تعالجه اليوم «فهلويا» لن تستطيع أن تعالجه غدا حتى بالقوة الجبرية، نترك النار بجوار الوقود، ونترك المجتمع غارقا غارقا فى مستنقع الركود، لا نقيم وزنا للنظافة، ولا الإيمان، ولا بهاء الشوارع ولا الأوطان، ونتساءل: لماذا تشتعل الحرائق؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة