مابين المتن وبين الهامش اسوار شفافة لا يعبرها الجسد لكن ينفذ منها النور.
فى الهامش تولد حرية .. تمسك حبل ولادتها السرى . تجر العجز المتحرك فى الروح .. تجذبه فيتبعها .. كالأم .. تعبر اسوار الهامش تقتحم ظلامات المتن الواسع .. يتبعها ضوء ازرق كالميلاد الاول .. كالفجر .. يناديها .. فتعود إليه .. الى الهامش .. وفراغ المتن يضيق .. يجلس فوق الكرسى المتحرك
حين تحاول الكتابة عن عرض مسرحى مثل عرض "الزومبي والخطايا العشر" للمخرج طارق الدويرى من إنتاج مسرح الهناجر، ومأخوذ عن رواية "1984" لجورج أوريل، ورواية "451 فهرنهايت" لراي برادبري، وكتابات وديع سعادة.
فانت تواجه معضلة كبرى لكثرة تفاصيله وتعدد مستوياته الفنية وتقاطعها بشكل مركب ومعقد حيث تتولد فيه الافكار والدراما وتتحرك بشكل انشطارى وليس بنيوى متصاعد وبالتالى تتعدد وتتعقد مستويات التلقى والنقد للمشهد الواحد بل للحظة الواحدة فنيا وموضوعيا . شانه شأن معظم العروض التى تنتمى الى ما بعد الحداثة .
ورغم ضبابية مصطلح "مابعد الحداثة" بعد كل هذا السيل من التنظيرات له إلا اننا يجب ان نقر بوجود ملامح فنية عامة مشتركة لهذا الاتجاه اهمها اعتماد التفكيكية منهجا فى التعامل مع العمل حيث تنتفى مركزية وسطوة الكتابة على العمل ويتم تفتيت وتشظى النص المسرحى والبناء الدرامى التقليدى للاحداث والشخوص الدرامية . وكذلك تعدد آليات العرض المسرحى وانفتاحها على استخدام كافة الوسائط التكنولوجية الحديثة ومزجها بعناصر المشهد المسرحى .
** ينتمى عرض الزومبى الى مسرح القسوة الذى اسس له نظريا (أنتونين آرتو) فى مطلع القرن الماضى وهو الاساس الذى بنى عليه العديد من المسرحيين المعاصرين افكارهم مثل (بيتر بروك – وجيرزى جروتوفيسكى ) .. ويعتبر مسرح القسوة لأنتونين آرتو ثورة على فلسفة المسرح الغربى حيث سعى الى هدم اساس بنيته الفلسفية بل ان تنظيرات ارتو لمسرح القسوة تعتبر فلسفة قائمة فى حد ذاتها فى بنيتها الفنية وليس مجرد انعكاس فنى لفلسفة ما .. فمسرح القسوة ثورة فلسفية فى المقام الاول وإن تغذت جذورها من روافد فكرية متشعبة مثل افكار (نيتشة وفرويد) . حيث لاتسطيع تمييز اسبقية الفلسفة على الاطار الفنى أو العكس .
فإنطلق مسرح القسوة لآرتو من ميدان المسرح وفى فضاء الفلسلفة بنفس السرعة والسخونة فى الاشتباك معهما .. فلم يشتبك مسرح القسوة فقط مع المناهج المسرحية السائدة حينها وانما اشتبك مع البنية الفكرية والاجتماعية للحضارة الغربية عموما متهمها بالاستهلاكية والتنميطية حيث يتحول فيها الانسان الى مجرد عنصر انتاجى ومجرد رقم استهلاكى فى مصفوفة التكنولوجيا الحديثة فيفقد تميزه وحيويته الروحانية .
فاعتبرها حضارة قاتلة للانسان .. وبناء على تلك المقدمات سعى مسرح القسوة الى هدم شامل لبنية ونظام المسرح الغربى السائد حينها وتفكيك كافة علاقاته من جذورها على مستوى الافكار والأشكال متجاوزا القوالب الفنية الراسخة بدءًا من ايهامية ارسطو حيث هدم المحاكاة الارسطية ( ليس الفن محاكاة للحياة، بل ان الحياة هي محاكاة لمبدأ متعال يضعنا الفن في تواصل معه) .
داعيا لهدم سطوة النص المكتوب فيرى ان النص المكتوب يتوجه الى وعي المتفرج وذهنه ويهمل لاوعيه ومن هذا المنطلق تحول النص لدى آرتو الى نوع من الصراخ وتلاوة التعاويذ السحرية، كما تحولت الكلمات الى ما يشبه التمتمة في الأحلام.
فقد اعتبر آرتو أن المسرحة تكمن في الحركة وليس في الكلمة، ولذلك دعا الى مسرح يتخلص من سيطرة النص ويتحول الى ممارسات طقسية لها بعد ميتافيزيقي والى وسيلة تعبير تتجاوز اللغة والحوار كوسيلة للتواصل فكان الاثر الروحانى هو المنشود فى مسرح ارتو مما دعاه الى العودة بالمسرح الى طقسياته الاحتفالية لإضفاء الروحانية الى الحالة المسرحية مستخدما اللغة البصرية ولغة الموسيقى بديلا عن مساحات عجز اللغة المنطوقة .
ومن هنا تنتفى فكرة اى معيارية قيمية قصدية للعمل المسرحى الذى يعتبره حياة قائمة فى حد ذاتها تعتمد القسوة كفعل تطهيرى مفجر لطاقة الحياة فى العمل المسرحى وبالتالى فى المتلقى كمشارك اصيل فيه .. وليس المقصود هنا القسوة السادية او تجسيد مشاهد العنف الدموى المتوحش وانما قسوة تشبه عنف احداث الحياة ذاتها على المتفرج الذى يندمج معها فتهزه بقسوة الفعل الصادم الذي يولده الخوف اللاشعورى .
القسوة التى تعرى وتكشف لتهدم توحش الافكار والانفعالات والمشاعر لتفريغها والتخلص منها كنوع من التطهير النفسى والعقلى اللاشعورى للمتلقى .. والتطابق واضح بين مفهوم القسوة كمركز لموضوع الحياة عند ارتو وبين مفهوم القوة كمركز لموضوع الحياة عند نيتشة .. فالقسوة ليست مجرد وسيلة او قالبا فنيا فى مسرح ارتو وانما هى مركز فكرى من صلب البناء لموضوع الحياة .. (في هذا المسرح ياتي كل الخلق من الخشبة لا من حيث خارجها( .. وكذلك يتضح ارتباط مفهوم القسوة واثرها فى لاوعى المتلقى بنظرية التحليل النفسى لفرويد التى تأثرت بها العديد من المدارس المسرحية اولها المدرسة السوريالية ( التى انتمى اليها ارتو فى بداياته ) مع فارق ان السوريالية تتعامل مع اللاوعى الفردى لكن مسرح القسوة يتعامل مع اللاوعى الجمعى حيث يرى ان العقل الواعى قيد للانسان ومنظم ضابط لإندفاعاته وحواسه فدعى الى منح الجسد الغريزة ،الحواس، والحركة مقاماً أعلى وسلطة اكبر من سلطة العقل نفسها .
واعتقد انه اقرب لأطروحة فرويد فى كتاب ( الطوطم والتابو ) التى ترصد تسرب تأثير اللاوعى الجمعى بشكل تراكمى تاريخى االى اللاوعى الفردى .. (هذا اللاوعي الذي يصفه اريك فروم في كتابه" فرويد وبوذا" بأنه الإنسان الكامل مطروحا منه ذلك الجزء من الإنسان الذي يتماهى مع مجتمعه . فإن اللاوعي يمثل الإنسان الكلي المتجذر في الكون ويمثل ماضيه وصولا إلى فجر الوجود البشري ) ...
ومما سبق كان من المنطقى ( بل من الحتمى ) ان ينتهج عرض الزومبى نهج مسرح القسوة نظرا للتطابق الفلسفى والموضوعى التام بينهما .. فمثلما ثار ارتو ثورة شاملة على بنية الحضارة الغربية يثور الآن عرض الزومبى على نظرية المعرفة الانسانية كلها فى منتجها الحضارى الاحدث المتمثل تحديدا فى الحضارة الغربية .
ويثور عليها بنفس الرؤية الفلسفية وبنفس الآليات والأطر الفنية التى ثار بها ارتو فى مسرح القسوة ويهدف الى هدمها والخروج عن سياقها باحثا عن طبيعة الانسان البكر التى كان عليها فى فجر الوجود البشرى .. حيث يطرح العرض قضية مسخ الانسان الحداثى ومابعد الحداثى قى ظل نسق معرفى عالمى يمارس عمليات الاستنساخ والتشابه المعرفى لدرجة النمذجة والتنميط ويسوق لها على انها النموذج الأعلى للحقيقة كأنها طوطم مقدس على الجميع إتباعه !! .. فتكون النتيجة ان يفقد الانسان ادميته البكر وتصدأ روحه وتتآكل تدريجيا حتى تموت نهائيا فيتحول الى (زومبى) .. ميت على قيد الحياة ..
** وكما دعا ارتو لاتباع آلية تفتيت بنائية الدراما التقليدية واعتبار العرض المسرحى أشبه باحتفاليات طقسية أقرب للحالة الحلمية بلا تتابع زمنى او احداث او شخصيات لها حبكة درامية متصاعدة .. فعلى نفس النهج اتبع عرض الزومبى منهج التفكيكية ولامركزية النص المسرحى ومنطقيا ان يبدأ التفكيك من المركب النهائى للموضوع .. لذا بدأ العرض المسرحى فى هذه الرحلة من الآن ومنك انت "المتلقى/المشاهد" ومن هنا "قاعة العرض" فمنذ دخولك الى قاعة العرض لاتجد ستارة تفصل بينك وبين خشبة المسرح ولاتجد (كواليسا) لخشبة المسرح انما فراغا مسرحيا فقط به بؤرة ضوئية بيضاء آتية من عمق خشبة المسرح تجوب ارجاء صالة العرض مسلطة على وجوه المتلقين فى صالة العرض كالمطاردين الهاربين المطلوب القبض عليهم ومن خلال عدة كاميرات تعكس صورتهم السينمائية على شاشات شفافة على محيط خشبة المسرح .
ومن وراء الشاشات الشفافة الجانبية ومن بين صور وجوه الجمهور المنعكسة عليها يخرج العديد من كائنات الزومبى وكأنهم يخرجون منا نحن او كأننا موجودون معهم فى عالمهم "الذى اصبحنا جزء منه - عالمنا" يأتون من كافة الاتجاهات الى قلب خشبة المسرح.. يملأونها.. يحتلونها تنطلق مشاعرهم العشوائية فى ارجاء المسرح ينطقون اصواتا وتمتمات مبهمة وحشية لا كلمات .. فيشكلون سياقا همجيا من أجساد مفعمة بالحركة المنظومة كالدمى بلا عقل بلا روح .. تنعكس صورتنا على وجوههم وتتداخل معها فيتحول المتلقى / المشاهد الى متورط / مشارك فى تلك الحالة المسرحية الحياتية .. ( نحن / الان / هنا ) مجرد "زومبى" .. موتى على قيد الحياة .. صوت : اهلا بكم فى العالم الجديد .. ومن هنا يبدأ العرض المسرحى فى رحلة تفكيك هذا العالم الجديد .. وتفكيك منتجه النهائى المتمثل فى هذا المسخ "الزومبى" .. انت شخصيا
** فيتحرك العرض موضوعيا فى تفكيك فكرة النمذجة المعرفية حيث لايوجد نموذج اعلى مطلق .. يهاجم العرض كافة السلطات الاجتماعية التى تدعى امتلاك الحقيقة المعرفية "سواء سياسية او دينية تحديدا" ويصمها بتزييف وعى الجماهير لأغراض انتهازية استغلالية مستغلة جهلهم .. فتبدا فى عزلهم داخل سياق معرفى منغلق محاط بأسوار غير مسموح بتجاوزها وتمارس عليهم كافة طرق الشوشرة والارباك الادراكى وافقادهم الثقة فى كفاءتهم العقلية وتبدأ عملية التلقين الممنهج "التعلم" ثم "التكرار" ثم "اليقين" فى عملية اشبه بغسيل الدماغ والبرمجة الاليكترونية فتكون النتيجة نسخا متطابقة أشبه بالمسخ "الزومبى"
وبما أن هذا المسخ الزومبى هو النتيجة الحتمية لهذا السياق المعرفى المشوه فحتما يكون تحقق الوجود الانسانى الحقيقى خارج هذا السياق .
فيتحرك العرض بشكل مواز راصدا مسار الخارجين عن تشوهات هذا السياق .. يرصد المتمردين الثائرين على السياق .. يرصد السائرين فى الهوامش ويعتبرهم جوهر ومنبع المعنى الانسانى الحقيقى .. الناس الكتاب .. هم اصل الفطرة الانسانية .. هم قلب المعنى .. وهذا المسار يتجه الى منابع نهر المعرفة الانسانية الاولى .. ليصل إلى (الهُناك)
هى - عليك تتبُّع منابع النهر حتى تصل إلى (الهُناك) وتستمر في السير حتى تصل إلى حيث يعيش (الناس الكتاب
هو - الناس الطيّبون؟
هى - لا، بل المنحرفون!
هى - أنت لم تسمعْ عنهم؟
هو- سمعتُ طبعا.. فقط سمعت.
هى - المنحرفون هُم آباؤنا وأجدادنا، الذين ماتوا في السجون والمستشفيات!! .. أودعونا حضارةً سريّة جميلة، .. في مقابل حضارة يُستحال إحصاء جثثها... المنحرفون، الذين ماتوا في المصحات أو في السجون، هم آباؤنا الحقيقيون . المختلفون المنحرفون ملح الأرض ساكنوا الطرق والأرصفة .. المنبوذون هُم رئة الحياة !! عبر التاريخ الإنساني
** وخلال العرض نستطيع اكتشاف اشارات لأمكنة وازمنة وشخوص واحداث لكنها مجرد ومضات لحظية متشظية فى سياق العرض .. فهناك مناطق على خشبة المسرح لها ملامح مكانية مميزة لتلك المناطق فنجد وسط خشبة المسرح يوحى احيانا بسياق مجرى النهر الجارف ويوحى احيانا بالمدينة واحيانا بالمصنع وواحيانا بالشارع .
وعلى محيط المسرح توجد شاشات وأسوار توحى احيانا بأسوار المدينة او بأسوار المصنع وخلفها ممرات وطرقات خلفية أشبه بهوامش المسرح توحى بضفاف النهر وفى العمق يوجد عازف الايقاع "بداية الزمن – بداية التاريخ" حيث توجد منابع النهر حيث تولد الروح الانسانية والحياة ويوجد سيزيف مازال يحمل صخرة العقل فعمق المسرح هو مصدر الزمن والتاريخ ومنبعه .. فرغم وجود ملامح مكانية مميزة لكل ركن فى الفراغ المسرحى إلا انه لم يتم الإلتزام "عن قصد" بخصوصية ثابتة او تحديد مكانى لأى مساحة بالمسرح .. ولاتوجد كواليس حيث المسرح هو ذات الحياة والاحلام حيث لاوجود لكواليس تخرج او تدخل منها الشخصيات . فلا وجود لشخصيات من الاساس .. فقط توجد افكار تولد من اللاوعى الى الادراك الى الوجود توجد مشاعر تظهر من الظلام الى النور .. وهناك امتدادات لشخوص واحداث لكنها لاتمثل شخوصا او احداثا مكتملة البناء .
مثل الشخصية التى ادتها د / نشوى محرم المعبرة عن صوت الحياة – المرأة - الروح الانسانية - الضمير الانسانى - صوت الحرية - الثورة - الفطرة .
وكذلك توجد شخصية المطارد الثائر الهارب الى الهامش المتحدى للنظام .. وهى شخصيات ممتدة طوال العرض المسرحى لكنها لاتخضع لآليات التطور الدرامى التصاعدى البنيوى التقليدى .
احيانا توجد فى شبه الحدث لكنها "تمثيليا" لاتغوص فيه لاتتقمصه وفى نفس الوقت لاتقوم بدور الراوى الحاكى الكاسر للايهام وانما تقوم بدور الكاشف المعبر عن المعنى فى انطلاقه بعيدا عن حدود الزمان والمكان والشخوص او حتى الموضوع انما هو انفعال عاطفى بحالة وجدانية تقترب من اللاشعور ولاتخاطب ادراك الموقف فالتمثيل هنا يعبر عن المعنى ولايتقمص الموقف او الشخصية .. شخصبات تتداخل مع الحالة المسرحية وتمتزج بها وتخرج منها بسهولة ودون قيد فنى وكأنها تتحدى بنية النظام الدرامى ذاته
** اما الجزء الأهم فنيا فى العرض والاكثر جدلا هو استخدام الوسائط التكنولوجية داخل المشهد المسرحى .. فلماذا ؟ وكيف ؟ وهل هو من باب الابهار الجمالى ام انه ضرورة فنية موضوعية ؟
استخدم طارق الدويرى وسائطا تكنولوجية مثل السينما والتليفزيون .. اى انه استخدم الصورة الضوئية .. فماهى الصورة الضوئية ؟ ببساطة هى ضوء منعكس على او من خلال شاشة .. إذا ما هو الضوء ؟ وتعريف الضوء من الناحية الفيزيائية البحتة هو جسيمات بدائية متناهية الصغر تسمى فوتونات لاكتلة لها تقريبا تحمل طاقة "كهرومغناطيسية" متعاظمة القوة تصل للطاقة النووية احيانا فإذا سقط شعاع ضوئى على سطح جسم ما ينتقل جزء من طاقته الكهرومغناطيسية الى إلكترونات هذا السطح فتحفزه فإما يفقد جزءا من طاقته وينتقل الى مدار طاقة اقل داخل الذرة وينطلق فارق الطاقة فى شكل فوتونات طاقة تنبعث من سطح المادة او يتحرر الإلكترون من ذرته مكتسبا طاقة حركية خارجا عن سياق الذرة فتتحول المادة الى عنصر نشط .. وقد قصدت تقديم هذا التعريف الفيزيائى البحت لإبراز عدة نقاط تطابق بين طبيعة وتأثير الضوء فيزيائيا وبين تعريف وتأثير المعرفة ايديولوجيا ..
يرتبط لفظ الضوء بالنور فيزيائيا.. ويرتبط لفظ المعرفة بالتنوير معنويا .. يرتبط الضوء بالابصار والرؤية فيزيائيا.. وترتبط المعرفة بالتبصر والرؤية معنويا .. الضوء "الفوتون" تقريبا لاكتلة له فهو مجرد طاقة منطلقة بلا ذرة مادية .. والمعرفة "الفكرة" لا إطار مادى لها فهى مجرد طاقة فكرية بلا جسد .. الضوء حامل طاقة كهرو- مغناطيسية والمعرفة حاملة طاقة عقل - روحانية فكريا .. الفوتون له مجال جذب وتأثير مغناطيسى على المواد والمعرفة "الفكرة" لها مجال جذب وتأثير مغناطيسى على العقل .. الضوء يتحرك فى الفضاء "الاثير" ولا يحجبه سوى المواد الصماء ولا ينعكس من المواد السوداء والمعرفة تتحرك فى الاثير الزمنى ولايحجبها سوى العقول الصماء الجامدة ولاتنعكس من العفول البليدة المسودة .. السراب ظاهرة ضوئية تؤثر على حاسة البصر فتوقع العقل فى ادراك مزيف وهمى .. وتزييف الوعى ظاهرة فكرية اجتماعية توقع العقل الجمعى فى اوهام لاوجود لها ... هذا التطابق الكامل بين طبيعة الضوء "الفوتون" الفيزيائية وطبيعة المعرفة "الفكرة" المعنوية حيث استخدم طارق الدويرى الضوء السينمائى كوسيلة معبرة عن طبيعة المعرفة المصنعة فأصبح الضوء السينمائى كأنه ممثل يجسد شخصية معنوية هى قولبة ونمذجة المعرفة دراميا .. فجاء التعبير عن كافة مراحل تصنيع العقل البشرى (التعلم – التكرار – اليقين ) وتحميله ببرامج المعرفة والافكار المنمذجة جاء فقط من خلال السينما او التلبفزيون ولم نجد طوال العرض اى مرحلة من مراحل نقل او تحميل المعرفة تم تجسيدها بأى وسيلة مسرحية انما سينمائية فقط فى إشارة ربط شرطى مقصود بين الضوء والمعرفة ,, وبالتالى نستطيع القول ان الوسيلة الفنية "الضوء السينمائى" جاءت من نفس جنس الموضوع الدالة عليه "المعرفة المنمذجة " ومطابق له تطابقا تاما ..
أما العنصر الثانى من السينما والتليفزيون هو الشاشة العاكسة .. وهذا يحيلنا الى ظاهرة الشاشات عموما التى اصبحت الوسيلة المشتركة لنقل المعلومات فى العصر الحديث سواء من خلال شاشات التليفزيون ام السينما ام اجهزة الكمبيوتر او وسائل الاتصال والانترنت الحديثة فيما يسمى بثورة الاتصالات والمعلومات وان الشاشات اصبحت اقوى الآليات التكنولوجية للسيطرة على العقل البشرى وتشكيله وتوجيه الرأى العام .. وايضا لم تكن الشاشات كلها شاشات صريحة وانما استخدمت كجدران على محيط خشبة المسرح وايضا تم عكس الصورة السينمائة عليها وعلى اجساد ووجوه الممثلين فى دلالة على سيطرة الصورة "الضوء" على عناصر ومكونات المشهد المسرحى كنوع من قوة التأثير والقدرة على تغيير ملامحه وكما الضوء يغير من طبيعة المواد فالمعرفة تغير من طبيعة البشر والمكان .. هذا بخلاف المواد السينمائية المعروضة ذاتها ما بين لقطات توثيقية من خطب زعماء دول ومبانى وغابات واعلانات دعائية استهلاكية واحصائيات بيانية اقتصادية الخ .. بما تحمله تلك المواد الفيليمة من كسر لزمان ومكان وموضوع المشهد المسرحى بما يوحى بالسيطرة التامة على الواقع او القدرة على تلوينه او تغيير ملامحه .. فالصورة السينمائية قادرة على تزييف هذا الواقع المسرحى .. اى انها تقدم معرفة معدة مسبقا ومبرمجة وموجهة ومغايرة للواقع المسرحى .. وهذا يؤكد ان إستخدام الوسائط التكنولوجية الضوئية المتمثلة فى السينما والتليفزيون لم يكن مجرد وسيلة إبهار جمالى او حتى مجرد مواكبة لمنهج مابعد الحداثة وانما ضرورة حتمية لتطابقها التام مع دلالتها الموضوعية .. واعتبره اختيارا فنيا لابديل له حيث انه من جنس الموضوع والطرح الفكرى للعرض فيمتزج القالب بالموضوع وتمتزج الاشكال بالافكار امتزاجا لدرجة الذوبان فلاتدرى ان كنت امام فلسفة فى قالب فنى ام فن فى قالب فلسفى .. لدرجة انى استطيع القول بأن تنظيرات (ارتو) الفنية لمسرح القسوة والتى اعتبرها النقاد من بعده ثورة فلسفية فنية ورغم انه لم ينجح هو نفسه فى تطبيقها عمليا على خشبة المسرح قد نجح طارق الدويرى فى تأكيد صحتها عمليا على خشبة المسرح ولذا ارى ان عرض ( الزومبى والخطايا العشر ) هو من اهم العروض المسرحية التجريبية واعلم انه سيشارك ضمن العروض الممثلة لمصر فى المهرجان التجريبى لهذا العام واتوقع ان يكون له صدا واسعا فى المهرجان فهو من اهم عروض مابعد الحداثة على مستوى المسرح العالمى .. ورغم عدم اعتراف مدارس النقد المابعد حداثية بمرجعية العمل الفنى فى تلقيه وعدم احالته الى نطاقه الزمنى او الاجتماعى او الشخصى لمبدعه إلا اننا لانستطيع انكار مرجعية هذا العرض وانتمائه الى فكرة الثورة .. تحديدا ثورة 25 يناير وهذا يظهر جليا فى عدة مواضع حيث احالتنا الحركة اوالحالة المسرحية كشفرات دلالية لصور ومشاهد ولقطات من زخم ثورة يناير رغم انه لم يتعامل مباشرة مع ثورة ينايرر إلا انه يحوم فى فلك مفاهيم وقيم وروح فكرة الثورة .. تلك الثورة التى مازالت روحها تشتعل فى عقل طارق الدويرى وعقولنا تقذف بحممها البركانية من فوهة خشبة المسرح فتحرق فينا اقنعة التشابه المزيف الذى يفرض علينا فنرى وجوهنا الانسانية الاصلية ونرى وجه تلك الانظمة السياسية اوالانساق الفكرية الدينية الفاشية ملأى بالقبح والتشوه كالدمى الكاريكاتورية المتضخمة كأنها طوطم وثنى آت من عمق الجاهلية المعرفية المشوهة وجب علينا طاعته وعبادته .
فهو عرض ينطلق الى فضاء العالمية من داخل محيطه المحلى قلبا وقالبا .. نحن امام عرض هام وثرى ممتع فنيا ومرهق فكريا وامام مبدع من العيار الثقيل يدعى طارق الدويرى .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة