"اللى مالوش أهل الحكومة أهله".. عبارة شهيرة ألقتها الفنانة راقية إبراهيم فى الفيلم العربى القديم "زينب" حين أصيبت بالسل ورفض زوجها وأسرته علاجها فخرجت معلنة أنها ستذهب للمستشفى لتلقى العلاج الحكومى "علشان اللى مالوش أهل الحكومة أهله والمتكفلة بعلاجه".
ويبدو أن زينب خدعتنا طوال هذه السنوات أو أنها كانت واهمة حين اعتقدت أن الحكومات فى مصر تتكفل بعلاج الفقراء وغير القادرين وتكفيهم شرور المرض وذل العلاج، وتخفف عنهم عناء البحث عن جرعات دواء تخفف آلامهم.
فهل تخيلت يومًا مدى الألم الذى يشعر به أب أو أم ابتلاهما الله بطفل مصاب بمرض السكر، وهل تخيلت حجم المعاناة النفسية والبدنية والمخاطر التى يعانيها هذا الطفل، وارتباط حياته أو موته بمدى حصوله على جرعات الأنسولين بانتظام، والتحاليل الدورية التى يجب أن يجريها لتجنب المضاعفات، وعدد المرات التى يتعرض فيها للغيبوبة بسبب انخفاض أو ارتفاع معدلات السكر فى الدم، وعدد المرات التى يدخل فيها المستشفى، حتى أن الكثيرين منهم يقضى أغلب عمره فى المستشفى، ويبقى فيها أيامًا أطول من تلك التى يقضيها فى بيته بسبب عدم الانتظام فى تلقى العلاج.
هل تخيلت كيف يسلب المرض طفولة وسعادة هؤلاء الأطفال الذين يجب أن يتناولوا الطعام بحساب، وحجم الألم النفسى الذى يعانيه الطفل من كثرة وخز الحقن التى تصبح جزءًا من حياته بل تتوقف حياته عليها وهل شاهدت علاماتها على أجسادهم الصغيرة.
هل يحتاج هؤلاء الأطفال وأسرهم إلى ضغوط وهموم تضاف إلى همومهم بل تفوقها للحصول على جرعات الأنسولين اللازمة لعلاجهم واستمرارهم على قيد الحياة، وكيف لأسرة فقيرة أن تستطيع توفير العلاج لطفلها حين تبخل به الدولة أو يحدد التأمين الصحى أدوية لا تكفى الطفل نصف الوقت أو يضع سقفًا لحجم وسعر الأدوية التى يحصل عليها هؤلاء الأطفال بالرغم من خطورة تفويت جرعة واحدة من الجرعات، حيث قد يحتاج الطفل إلى 4 جرعات يومية من الأنسولين، وقد يرتفع سعر الأمبول الواحد من بعض النوعيات إلى ما يزيد على 100 جنيه، ولا يكفى الطفل أكثر من أسبوع.
كيف تترك الدولة وهيئة التأمين الصحى هؤلاء الأطفال عرضة للخطر والموت بسبب قلة الأدوية التى تمنحها لهم رغم أن الدستور يكفل توفير العلاج لغير القادرين بالمجان.
هل وصلت القسوة إلى أن يضطر هؤلاء الأطفال وأسرهم للجوء للقضاء حتى يحصل الطفل على جرعات أنسولين تبقيه على قيد الحياة فى دولة ترتفع فيها نسبة الإصابة بمرض السكر وتصل أعداد المصابين فيها إلى 9 ملايين مريض بالسكر بينما ترتفع نسبة الإصابة بين الأطفال بشكل كبير حتى أن الأطباء أكدوا أن ثلث أطفال مصر عرضة للإصابة بالمرض بينما يصاب به الألاف وتبدأ الإصابة به منذ الولادة.
وهل تحتاج المنظومة الطبية والعلاجية فى مصر إلى حكم قضائى يلزم الحكومة بعلاج الأطفال مرضى السكر من تلاميذ المدارس بالمجان، وهو ما حدث مؤخرًا حين لجأ فلاح فقير من محافظة البحيرة للقضاء بعد أن عجز عن الوفاء بعلاج طفلته المصابة بالسكر، وبخلت عليه هيئة التأمين الصحى بما تحتاجه الطفلة التى تبلغ من العمر 10 سنوات من علاج يبقيها على قيد الحياة، فاعتبرت المحكمة أن ما حدث فى حق الطفلة التى تمثل نموذجًا لما يعانيه الآلاف من الأطفال مرضى السكر يمثل جريمة إنسانية فى حق الطفولة واعتبر القضاء وزير الصحة مسئولاً عن تنفيذ الحكم وعن توفير العلاج لهؤلاء الأطفال باعتباره مسئولاً عن هيئة التأمين الصحى.
وكان والد التلميذة الفلاح بسيط قد لجأ للمحكمة بعد أن رفضت هيئة التأمين الصحى علاج ابنته الذى أقره الأطباء بأنسولين مائى بواقع 40 وحدة يوميًا، أنسولين لانتوس بواقع 30 وحدة يوميًا، قلما أنسولين بواقع قلم خاص لكل نوع، قياس السكر بالدم لمتابعة السكر 8 مرات يومياً، شرائط أسيتون لمتابعة الأسيتون بالبول.
وفى استهانة بالغة لم تمتثل هيئة التأمين الصحى ومن يمثلها أمام المحكمة واعتبر وزير الصحة نفسه غير مسئول عن هيئة التأمين الصحى، وأكدت المحكمة أن الهيئة تعرض حياة التلاميذ المرضى للخطر، وهى جريمة إنسانية فى حق الطفولة مؤثمة جنائيًا، مؤكدة أن الهيئة استهانت بعدم الامتثال للمثول أمام القضاء.
لم يكن الأطفال مرضى السكر فقط هم من تبخل عليهم الدولة بالعلاج ويضطر بعضهم للجوء للقضاء ولكن مرضى النخاع الشوكى المزمن أو التصلب المتعدد الذين يحتاجون أدوية مرتفعة السعر ما جعل إحدى الموظفات المريضات تلجأ للقضاء بعد عجزها عن توفير العلاج اللازم لبقائها على قيد الحياة، وأصدر القضاء حكمه الإنسانى والتاريخى بحقها وباقى المرضى فى العلاج دون تحجج الدولة بارتفاع سعره.
وأكدت محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية فى حكمها الإنسانى أنه لا يمكن بأى حال أمام سطوة المرض وجبروته الذى لا يرحم أن تضع الدولة حدًا أقصى لما تلتزم به هيئة التأمين الصحى من نفقات لعلاج للمواطنين وأمرت المحكمة التأمين الصحى بعلاج مواطنة مرتبها لا يزيد على 499 جنيهًا وتعول أسرة كاملة أصيبت بمرض النخاع الشوكى المزمن، والغريب أنها تعمل بالهلال الأحمر وتعيش تحت خط الفقر طبقًا للتعريف الحديث للأمم المتحدة، ورغم ذلك تخلى عنها التأمين الصحى ورفض علاجها بحجة ارتفاع سعر الدواء، فأصدرت المحكمة حكمها، مؤكدة إن الالتزام بعلاج غير القادرات مجانًا ليس هبة من الدولة تمنحه لمن تشاء وتمنعه عمن تشاء، ولكنه من أقدس واجباتها التى لا تستطيع بأى حال التنصل منه تحقيقًا لخير الوطن والسلام الاجتماعى بين كل طبقات الشعب، وأن الاحتفاء الدستورى بالمرأة لا يكون فحسب فى السراء وإنما يجب أن يمتد كذلك إلى الضراء، بما يكفل علاج المريض حتى تمام شفائه.
وإذا كان ما سبق هو ما ورد فى الحكم القضائى الذى أشار إلى استهانت هيئة التأمين الصحى ووزارة الصحة والمنظومة العلاجية فى مصر بالقضاء وبحقوق المرضى فى العلاج والحياة نؤكد أن هذه الاستهانة لن تتوقف وستستمر وأن الحكم القضائى التاريخى لن يتم تنفيذه وإذا تم تنفيذه لهذه الطفلة وتلك السيدة فإن الآلاف غيرهما لن يحصلوا على هذا الحق الدستورى وقد يموت الكثيرون منهم بسبب تخلى الدولة عن دورها فى علاجهم واعتبارها أن ما تمنحه من فتات العلاج هبة منها وليس حقًا أصيلاً لمواطنيها.
فهل يبقى المرضى بين قهر المرض وذل الحكومة أم ننتظر إعادة النظر فى المنظومة العلاجية بمصر بما يكفل أبسط الحقوق الإنسانية للمواطنين؟ وهل تحتاج هذه الخطوة إلى تدخل وقرار من الرئيس السيسى فى ظل حكومات اعتادت ألا تتحرك إلا بتحرك الرئيس وقراراته؟.
زينب عبد اللاه تكتب: من الحكومة إلى الفقراء موتوا بأمراضكم.. الأطفال مرضى السكر يستغيثون للحصول على الأنسولين.. الدولة ترفض علاج مرضى النخاع الشوكى.. والتأمين الصحى يرتكب جرائم ضد الإنسانية
الثلاثاء، 16 فبراير 2016 08:20 م