د. مجدى عاشور

تجديد الفكر الديني (17) التراث بين التهويل والتهوين

السبت، 31 ديسمبر 2016 10:46 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إنه من المقرر عقلًا واجتماعًا وأخلاقًا، أنه ما من أمةٍ لها تراث وأصول ضاربة بجذورها في أرض التاريخ والجغرافيا والحضارة، إلا وتعتز بهذا التراث، وتتوارث هذا الاعتزاز إلى حد الافتخار بما تركه لها أجدادها وسلفها من بُنْيانٍ معرفيٍّ تراكمت طوابقه واشتد عُودُه عبر أجيال وقرون متتالية، يُسلِّم سابِقُها لِلَاحقها ما انتهى إليه عِلْمه وتجربته اللذين أفرغ فيهما جُهدَه وَوُسْعَه لِيُحقِّق السعادة والعيشة السوية له ولأبناء مجتمعه، بل ولبني جنسه.

إذ العلوم مشتركة في خدمة الإنسان، على الأقل في الجانب الأخلاقي، وهذا كله من مقتضيات قول الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}[العنكبوت: 20].

والسير ليس على الأرض وفيها فَحَسْب، وإنما في علومِ مَن كانوا يعيشون عليها وما تركوه من تراثٍ كبير. فما كان من خيرٍ اتبعناه وبنينا عليه، وما كان غير ذلك اعتبرنا به لئلا نقع في أسبابه فتدركنا نتائجه.

والتراث بهذا المعنى هو ما ورثه الحاضرون عن السابقين من علومٍ وثقافة وعاداتٍ، وخيره ما كان من علومٍ نافعة، ومعارفَ بانية للعقول، ومربية للنفوس، وصانعة للحضارة، وآخذة بيد الإنسان إلى سعادته في الدنيا والآخرة.

وهو ما قرره رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (أخرجه أحمد).

ولنتوخى الدقة في كلامنا، لابد من تحديد معنى التراث المراد تناوله في هذه الورقات، وهو يطلق بعدة اعتبارات؛ إما على القرآن الكريم باعتبار توارثه وليس باعتبار الزمنية فيه، إذ هو مطلقٌ عن الزمان والمكان. وكذلك يطلق على السنة النبوية الشريفة، وما ورد بعد ذلك من آثار عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح، ثم ما تركه العلماء من علوم في الشريعة أو العلوم الخادمة لها من لغةٍ ونحو وصرف وبلاغة، بل وعلوم الاجتماع والنفس والعمران وغيرها من العلوم النافعة لبني الإنسان.

واستخدام العلماء لكلمة «التراث» عند الإطلاق يعنون بها ما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، أي يقصدون به ما هو منتج بشري حتى ولو كان فهمًا لتفسيرِ آيةٍ أو معنًى لحديثٍ نبوي.

وهو بهذا المعنى الأخير لا يهوِّل في تلقيه ليصل إلى حد القداسة، ولا يُهوِّن منه إلى درجة التسطيح أو عدم الاكتراث به وازدرائه، والتعرض لمن حملوه بالنبذ والتنابز.

فالأول يفعله كارهو الحياة ومحبو التبعية، والثاني- الطعن والازدراء- يستحبه أهل الهوى وحب الظهور.

إن أصحاب الرأي الأول وهم أهل الجمود، لا يستطيعون إيجاد بدائل تصلح للتطبيق في عالم متغير ووقائع لا تتناهى.

وذوو الرأي الثاني، وهم أهل التخبط والهوس، يهدمون ما سبق ولا ينشئون جديدًا يصلح لمن حضر أو لحق، ولهذا فكلاهما عبء على الأمة بل على الدين، ويأخذان من حضارة هذه الأمة وبنائها المعرفي وهم يحسبون أنهم يبنون أو يرتقون، وهذا هو الوهم بعينه والسراب بذاته.

أما أهل العلم الصحيح والمنهج المليح، فإنهم يُخضِعون كل شيء لمعايير العلم وقواعده وضوابطه، فما وافقها قبلوه واستفادوا منه وبنوا عليه بما يناسب وقتهم ومقتضى حالهم ومصالحهم بما هو مخالف شرعًا ثابتا قطعيا، وما كان غير ذلك احترموه ولم يسفهوه، وقد لا يأخذون به لاختلاف سياقه الذي كان فيه مع ما يعيشونه، ولأن مآلات فعله قد تضر في هذا الوقت ولا تنفع.

وهم في الوقت ذاته يحترمون أصحاب هذا التراث غير الملائم لهم الآن، لأنهم بذلوا جهدهم عن علم في وقتهم، فقاموا بما نسميه «واجب الوقت»، وفارق كبير بين «واجب الوقت» الذي يرتبط بزمانه ومكانه وشخصه وحاله، و«واجب كل وقت» الذي لا يتغير بتغير هذه الجهات الأربع المذكورة.

وبهذا المعنى احترم علماء الخلف علماء السلف وشكروا لهم جهدهم وما بذلوه في سبيل إقامة دنياهم بحقائق دينهم بما فيه من قيم وأخلاق تُوَرَّث لكل جيل.

إذًا فالحاضرون يحترمون الجهد، وفلسفتي الاجتهاد ومنطلقه المبنى على توارث الأخلاق التي هي ثوابت الثوابت، بخلاف من يسفه أعمال السابقين- وهم أعلام لا يتكررون كثيرًا- لأنه لم يستفد لا من علمهم ولا من أخلاقهم.

إن التعامل مع التراث ليس بقداسة ولا بدناسة، ولا بتهويل أو تهوين، ولا بتفخيم أو تحقير، وإنما بالاحترام والتوقير والنقد البنَّاء الذي يبني ولا يهدم ويُغير ولا يخرب ويدمر.

وللعقلاء والعلماء في ذلك منطلقات وقواعد يسيرون عليها، مثل:

• قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي».

• وقول الإمام مالك رضي الله عنه: «كل يؤخذ من قوله ويرد».

• وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: «رأيي صحيح يحتمل الخطأ».

مع اعتبار أن قائل هذه المقولات الذهبية، من الأعلام والأئمة المجتهدين، وليس ممن لا ناقة له ولا حمل في علم أو منهج أو خُلُق.

وصدق الله تعالى حيث يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة