فى لحظة نادرة الحدوث شاهدها العالم كله، أردت رصاصات مباغتة للضابط التركى مولود ميرت الطنطاش، السفير الروسى لدى أنقرة أندريه كارلوف، وهو يفتتح معرضًا للصور تحت عنوان "روسيا بعيون أتراك".
لكن القاتل التركى الذى وقف بهدوء غريب خلف السفير الروسى متحينا الفرصة المناسبة لقتله، الذى عاجلت قوات الأمن التركية إلى قتله وليس محاولة اعتقاله، أدى قبل تصفيته السريعة المشهد الدعائى الملائم، وهو يرفع يده اليسرى فى الهواء مكبرًا ومتوعدًا وداعيًا إلى الانتقام لحلب، على شاكلة مشاهد الإعدام التى روج لها "الإرهابيون" فى سوريا والعراق وغيرهما، وهم يجهزون على ضحاياهم الأبرياء.
الفارق هذه المرة أن القاتل "رجل أمن" وهو فى قلب العاصمة أنقرة، وما كان له أن يتميز بالوقوف خلف السفير الروسى وحيدًا لولا أن وظيفته الأمنية تسمح له بذلك، خصوصًا أن أجواء التعبئة فى أوساط الإعلام التركي الموالى لأردوغان والتيار الإسلامى الإخوانى - التركى، كثفت فى الأسابيع الماضية من حملات التشهير بالجرائم الروسية فى سوريا، بالتلاقى مع حملات إعلامية واسعة فى بعض وسائل الإعلام الخليجى والتواصل الاجتماعى الموجه، بررت ضرورة الاقتصاص من السياسات الروسية فى المنطقة واستهداف السفارات والسفراء الروس.
ورغم أن المشهد كان مسرحيًا إلا أنه كان مؤلمًا حد الوجع بسبب مقتل سفير أعزل، اللهم إلا من وساوس انتقامية تسكن عقل التكفيريين الإرهابيين فى كل مكان على ظهر الأرض، وجاء هذا المشهد ليؤكد مجموعة من القضايا ذات الارتباط بهذا الحادث، والتى لا يمكن قراءة المشهد بدونها وهى:
أولاً: تأكد أن الموقف الروسى موقف براجماتى يعتمد على مصالحها، حيث كان من المقرر أن ينعقد فى اليوم التالى لعملية الاغتيال اجتماع فى موسكو يضم روسيا وإيران وتركيا للتباحث حول الأزمة السورية، ورغم محاولة الاغتيال إلا أن روسيا قررت انعقاد الاجتماع فى موعده دون تأجيل، وهو الأمر الذى يعنى أن روسيا تعمل على أن تبقى مفاتيح الأزمة فى سوريا بيدها، بعد أن ابتعدت الولايات المتحدة الامريكية عن المشهد السورى كثيرًا، تاركة رغما عنها – الدب الروسى ليتقدم المشهد، ويصر على أن يضع سيناريو الأزمة.. وهو الأمر الذى يجعلنا نعود بالذاكرة إلى شهر أكتوبر من العام الماضى عندما سقطت الطائرة الروسية فوق سيناء بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ عندما قررت السلطات الروسية وقف الأفواج السياحية إلى مصر بسبب ما قالت عنه آنذاك "ضعف الموقف الأمنى المصرى".
ثانيًا: أن مقتل السفير الروسى دليل براءة جديد من اتهام الأمن المصرى بالاختراق من الجماعات التكفيرية، فالطائرة كانت قد أقلعت من مطار أنقرة قبل وصولها شرم الشيخ، وأن ما حدث فى تركيا أخيرًا، ومن قبلها محاولة الانقلاب على نظام أردوغان، وغيرها من العمليات التى استهدفت مصالح ومنشآت تركية ومنها مطار إسطنبول يؤكد عدم قدرة الأمن التركى السيطرة على الإرهابيين، ومن ثم فإن نقطة الضعف الرئيسية فى حادث الطائرة الروسية هى الأمن التركى، وهو ما يعنى أن سيناريو وضع قنبلة فى الطائرة قبل إقلاعها من أنقرة هو السيناريو الأقرب للفهم والواقع.
ثالثًا: لماذا قام الأمن التركى بتصفية الضابط الإرهابى ولم يحاول اعتقاله خاصة أن الإرهابى بعد إطلاقه الرصاص على السفير الروسى هرع كل الموجودين بالمعرض المغلق إلى الفرار خارجه، فأصبح الإرهابى وحيدًا فى القاعة يهذى بعد أن قام بجريمته؟ والأقرب للفهم فى هذه الحالة أن هناك شخصيات فى أركان نظام أردوغان متورطة فى عملية الاغتيال، وهو ما نفهمه من دوران الآلة الإعلامية الأردوغانية واتهام جماعة عبد الله جولن بأنها وراء عملية الاغتيال، ولو ألقى الأمن التركى القبض عليه لتكشفت فضيحة كبرى لأردوغان وجماعته.
رابعًا: أن الإرهابى الذى قام بعملية الاغتيال هو ضابط فى الأمن التركى، وهو ما يعنى أن الجهاز الأمنى قد تم اختراقه من جانب الإرهابيين والجماعات المتشددة، وهو ما يعنى أيضًا أن تركيا مقبلة على شتاء إرهابى كبير، وعمليات إرهابية أخرى خلال الفترة المقبلة، وهو الأمر الذى يختلف كليًا عن الأمن المصرى العريق الذى يواجه الإرهاب بضراوة وإيمان وثقة، والتاريخ يقول إنه لم توجد عملية إرهابية واحدة فى مصر تورط فيها بالخيانة ضابط مصرى، وهو ما يعنى نقاء الدم الشرطى من كل ألوان الطيف المتشدد، رغم المحاولات السابقة لجماعة الإخوان الإرهابية عندما كانت فوق سدة الحكم من أخونة جهاز الأمن المصرى وذرع العناصر الموالية لهم.
خامسًا: أن الشعب التركى سيدفع ثمن مغامرات أردوغان الذى يلعب على كل أحبال السيرك، واهمًا بالزعامة التى أصابته بالاختلال النفسي، فتارة نجده وقد انخرط فى خندق الإرهابيين ودافع عنهم، ودعم إخوان الشيطان وسمح لهم بالإقامة فى تركيا، وسمح لهم باستخدام الأراضى التركية لعقد اجتماعاتهم المشبوهة، واستخدامها منصات للهجوم على الدولة المصرية، بل والتخطيط للعمليات الإرهابية ضد الشعب المصرى، ويهاجم الدولة المصرية وقياداتها فى كل موقف وبغير مناسبة، فهاهو الشعب التركى يدفع الثمن وتنقلب هذه الجماعات على أردوغان، فكل منهما يلعب على الآخر لعبة الموت والمصالح، وها هى الجماعات الإرهابية التى ظن أردوغان أنها لن تنقلب عليه، وأنه سيكون بعيدًا عن سهامهم فإذا بالسحر ينقلب على الساحر.