فى الفترة الأخيرة وقعت حوادث إرهابية متعددة فى مصر، وتعليقا على هذه الأحداث اتهم المثقفون مناهج التعليم، ودعوا إلى التفكير خارج الصندوق ورشحوا البداية بكتاب الدكتور طه حسين "مستقبل الثقافة فى مصر" لنبدأ منه.
ظروف الكتاب
عندما وقَّعت مصر معاهدة "الشرف والاستقلال" عام ١٩٣٦م، اعتقد المصريون أن بلدهم يسير بخطى ثابتة نحو بناء دولة حديثة، وعكفوا على رسم الخطط للنهوض بتلك الدولة، وطه حسين من موقعه كأديب ومفكر ووطنى، رأى ضرورة أن يسهم فى وضع تصور لمستقبل الثقافة فى مصر، صابغا تصوره ذاك بمسحة غربية ينكر معها استمرار ارتباط مصر بأصولها الشرقية، مؤكدًا أنها أقرب لدول حوض البحر المتوسط منها لدول الشرق.
وفى مقالة سابقة له توقف الكاتب إبراهيم العريس عند هذا الكتاب فى إحدى مقالاته المنشورة ىبجريدة الحياة، والتى جاءت تحت عنوان "مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين: من زمن الأسئلة الحارقة"، ويقول فيها: "لم يكن من المصادفة، أن يضع طه حسين كتاب "مستقبل الثقافة فى مصر" عام 1938، أى بعد فترة يسيرة من توقيع معاهدة 1936، بين مصر ودولة الاحتلال البريطانية، التى تتحدث عن الدستور والاستقلال وتعلن بدء إلغاء الامتيازات الممنوحة للأجانب، على حساب المصريين، فى وطن هؤلاء، فهنا يبدو لنا، من خلال ربط توقيت ظهور الكتاب، بالحديث عن الاستقلال المصرى، إن طه حسين إنما طرح على نفسه، وفى شكل مبكر جداً، السؤال المعضلة الذى يشغل الآن أذهان المفكرين العرب: ماذا نفعل بالاستقلال؟ بل إن طه حسين لم يسأل فقط، فى ذلك الكتاب، بل أجاب أيضاً.
ويكمل "العريس": إذا كان هذا الكاتب، قد حصر تفكيره وكتابه بـ"القضية المصرية"، غير ملتفت كثيرا إلى ما كان أقرانه من أهل الشمولية العربية أو الإسلامية ومن شابههم، ينادون به من حلول جامعة مانعة، فما هذا إلا لأنه كان واقعياً، وكان يعرف تماماً أن قروناً من الاحتلال العثمانى ثم عقوداً من الاحتلال الغربى، لبلدان المناطق العربية والإسلامية، جعلت نمواً متوازناً وحلولاً شاملة للجميع، أمراً مستحيلاً، كما أنه إذ التفت الى التاريخ القديم، رأى أن الجذور الثقافية المكونة لكل منطقة على حدة، لا تسمح، عند تلك المرحلة من التاريخ، باستلهام حلول موحدة، حيث إن توحيد الحلول فى مثل تلك الظروف لمناطق تختلف جغرافياً واقتصادياً وتطوراً تاريخياً وذهنيات اجتماعية، معناه تأجيل كل حل، ولما كان الوضع فى مصر، على الأقل، لا يتحمل مثل ذلك التأجيل فى وقت كان الاستقلال قد أضحى برنامج عمل، لا حلماً وطنياً بعيداً، قال طه حسين: لنبدأ بالأقرب والممكن، لنبدأ بمصر ولنر بعد ذلك! طبعاً ليس المجال كافياً هنا لمناقشة هذه النقطة بالذات، غير أن ما لا بد من الإشارة إليه بوضوح هو أن تطورات العقود الأخيرة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن طه حسين كان على صواب تام فى اختياراته الجغرافية. وهو على أى حال أوضح ذلك حين، كى يتحدث عن حاضر مصر ومستقبلها وبخاصة مستقبل الثقافة فيها، وجد نفسه يعود الى مصر القديمة. مصر الحضارة الزاهية، التى شعت بنورها ذات يوم على جزء واسع من مناطق البحر الأبيض المتوسط، وأعطت للكون ما لم تتمكن مصر بعد ذلك من إضافته الى مسار هذا الكون.
وأضاف إبراهيم العريس: فى هذا الإطار رأى طه حسين أن مصر الراهنة -ومصر المستقبل- لن تصل إلى درجة مثلى من الحضارة والرفاه لأبنائها إلا إذا قامت على الأسس الفكرية التى قامت عليها مصر القديمة (الفرعونية تحديداً)، فى تواصل مدهش مع الحضارة الإغريقية العقلانية، كما فى توازن خلاق مع حضارات العالم القديم التى كانت فى أساس التجديد الخلاق فى حياة وازدهار شعوب المناطق الثلاث التى تشكل استمرارية تلك الحضارات: الصينية واليابانية والهندية، ويبدو طه حسين واضحاً هنا حين يشير الى أن هذه الحضارات، على رغم ما أصابها من انتكاسات، تمكنت فى الأزمنة الحديثة من استعادة المبادرة، من دون أن تسعى الى توسّع جدى ودائم فى مجالها الجغرافى، من هنا رأى طه حسين أن على مصر اليوم أن تفعل الشىء نفسه، وإذا كان ثمة مجال حضارى راهن يمكن التواصل معه، ليس لأسباب أيديولوجية، بل لأسباب ثقافية وبراجماتية، فهذا المجال يجب أن يكون أوروبياً متوسطياً، من دون أن يعنى ذلك أى اندماج سياسى، أو تبعية اقتصادية، بالنسبة الى طه حسين، المسألة مسألة ثقافية حضارية، وهى بالتالى ترتبط بالتعليم وبإعداد الأجيال الجديدة بجعلها مستعدة لدخول زمن العالم، ولأن هذا البعد الأخير هو الأساس والمنطلق الذى وضع المؤلف كتابه انطلاقاً منه ووصولاً إليه، حدّد أهداف التعليم بالنسبة إليه تبعاً للترتيب الآتى، إعداد الإنسان للتفاعل مع الثقافة المعاصرة، وبعد ذلك تعزيز مبدأ المواطنية عبر السعى الى توحيد التعليم ومناهجه، سواء كان هذا التعليم رسمياً، خاصاً أو أزهرياً، ما من شأنه أن ينتج مواطنين موحدى الأسس الفكرية، ثم أحراراً بعد ذلك فى توجهاتهم ضمن إطار شعورهم المشترك بالمواطنية فى دولة رعاية واحدة، وهذا الأمر يستتبع، بالنسبة إلى مفكرنا، إعداد المناهج التعليمية فى شكل علمى وعقلى بغية منع الدروشة والتخلف من السيطرة على عقول الناشئين، أما بعد ذلك فإن طه حسين يعالج مسألة أمية المتعلمين، من دون أن يطلق عليها هذا الاسم، إذ، بالنسبة إليه، لا يكفى نيل الشهادة لاكتساب عقل ماهر وفعال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة