محمد حبوشه

مصر .. تاريخ من التصدي للغلاء بالسخرية والحزم !

الأربعاء، 23 نوفمبر 2016 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 لم يذكر التاريخ يوما أن مصريا واحدا خرج شاهرا سيف لعنات لأهله وبلده على قارعة الطريق - كما هو الحال على مواقع التواصل الاجتماعي-  بسبب الفقر ، بقدر ما كان يحمل روحا من السخرية والدعابة اللاذعة ، ولعل السخرية هنا تعد من أهم الموروثات لدى الشعب المصرى، والتى يجد فيها فرصة لمعارضة الحكام على مر السنين، خصوصاً أن معظم من تولى حكم مصر عبر التاريخ كان بعيداً عن معاناة الشعب الحقيقية ، وتفصله بطانة تعزل الشعب عن الحكام ، والمصريون معروف عنهم حب الدعابة والسهر فى جماعات أمام المقاهى التى تتحول إلى منتديات سياسية ، يلتقى فيها الجميع فى دوائر مستديرة لمناقشة مختلف القضايا ، بدءاً بالسياسة وانتهاء بالأسعار والحوادث والقصص والحكايات المسلية ، وهو الأمر الذى جعل الأغنية الشعبية الخفيفة على مدار تاريخها حاملة للعديد من المعانى والمواقف التى تندرج تحت ما يسمى بالأغنية الفكاهية التي تأتي على سبيل التسرية عن النفس .

وعلى مداد تلك السخرية اللاذعة يبدو الغلاء سمة طبيعية تميز حياة المصريين دون سائر شعوب الأرض قاطبة، ولأنه أطلق عليها اسم "المحروسة" إذن فلاخوف عليها مهما اشتدت الأزمات والنوائب التي تمر بها، فمهما بلغت حدة الغلاء يظل الأمل معقود بنواصى هذا الشعب بقدرته على فلسفة أعقد أموره بالسخريه، ونحن هنا لا نريد بالطبع أن نضيف حزنًا إلى أحزاننا وهمومنا ، ولا نسعى - لاسمح الله -  بالطبع لأن ندعم يأسًا بيأس ، فضلا عن إننا بالتأكيد لا نقدم نوعًا من العزاء التقليدى للحاضر المر الذي نعيشه ، باعتبار أن فى الماضى ما هو أسوأ حالا وأشد بؤسًا وأكثر قتامة ، كما أنني في النهاية لست من عشاق التبرير لنظام بعينه دون غيره .

فقط هى محاولة لإنعاش الذاكرة ونحن في خضم الغلاء الحالي ، نذكر بعض الأمثلة على سبيل الحكمة والتدبر في شأن الدولة المصرية التي لم يكتب لها الموت على مدار تاريخها ، على عكس ما يصوره لنا البعض حاليا من توفر أسباب عجزها وموتها سريريا خلال أيام أو شهور أو حتى سنوات قليلة ، وهو الأمر الذي يحتم علينا أن نجدد بيننا روح الأمل ، ونبث روح الثقة فى المستقبل ، خاصة أن هذا الشعب الذى استطاع أسلافه أن يتجاوزوا كل هذه الأزمات والمجاعات فى الماضى بصبر وحكمة هو شعب بالتأكيد له من السمات والمواصفات ما يؤهله هو وأبناؤه وأحفاده من بعد أن يتجاوز أزمة الحاضر، وهم فى طريقهم نحو العبور للمستقبل بأمان وثقة في خالق هذا الكون وراعيه جلت قدرته.

وكنوع من التذكر والتدبر نسرد بعض الأمثلة : فبحسب المقريزى فى كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" أن أول حالات الغلاء وقعت بمصر كان فى زمن الملك السابع عشر من ملوك مصر قبل الطوفان "طوفان نوح" وهو الملك "أفروس ابن مناوش"، الذى وقع الطوفان فى زمنه وكان سبب الغلاء ارتفاع الأمطار، وقلة ماء النيل، فعقمت أرحام البهائم وصارت أسعار الأشياء فى غاية الارتفاع وصار كل شىء عزيزًا ونادرا، ويذكرنا  المقريزي أيضا بأزمة طرأت على مصر قديما عنما استعان ملكها كما تروي لنا الآيات القرآنية عن استعانة ملك مصر بسيدنا يوسف -عليه السلام - لتدبير أمور البلاد الاقتصادية؛ وكان النجاح حليفا ليوسف فى إنجاز مهمته، وشيئا من هذا وقع تزامنا مع مبعث نبى الله موسى - عليه السلام - إلى فرعون مصر، وتمر عجلة التاريخ محملة برياح الأزمات، حتى جاءت سنة 87هـ، وتحديدا فى زمن "الوليد بن عبد الملك بن مروان"؛ والتي شهدت انتكاسة جديدة ليكون أول غلاء تشهده مصر فى زمن الإسلام، وكان الأمير أنذاك بمصر هو "عبد الله بن عبد الملك بن مروان"، والذى تشاءم به الناس وكرهوا إمارته كراهية شديدة، وقد استمرت نوبات الغلاء تلك فى عهد الدولة الإخشيدية، وكذلك الدولة الفاطمية فى بعض الفترات.

كثيرة هى الأمثلة في اختبار عزيمة الشعب المصرية ، ولعل أشهرها أزمة الغلاء فى خلافة المستنصر أو ما اشتهر باسم "الشدة المستنصرية" ، التى استمرت سبع سنوات ، وكان سببها ضعف السلطنة والصراع على السلطة واستيلاء الأمراء على الدولة ، وكذلك حال الأزمة الاقتصادية الكبيرة سنة 596 هـ أثناء الحقبة الأيوبية فى عهد السلطان "العادل أبى بكر بن أيوب" وكان سببها توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة ، وتكاثر مجىء الناس من القرى إلى القاهرة بسبب الجوع وانعدام القوت ، حتى وصل الأمر إلى درجة من الفظاعة والبشاعة لا يتصورها عقل ولا يتقبلها منطق ، وحتى في عهد سلاطين المماليك تكررت المجاعات بمصر، وكانت غالبية هذه المجاعات مرتبطة بنهر النيل وفيضانه السنوى الذى تعتمد عليه الزراعة فى البلاد.

ومن بين كل تلك النوائب التي مرت بمصر أتوقف طويلا أما تلك التي حدثت فى عهد الحاكم بأمر الله (سنة 398هـ) لما فيها من الحكمة والحزم من جانب الحاكم والمحكومين في التعامل مع الأزمة ، فقد بلغت زيادة النيل أكثر من أربع عشرة ذراعا ومن ثم لحقت بالناس شدائد كثيرة جراء ذلك ، ونقلت الأخبار أن الناس فى تلك الأثناء كانوا يعانون جوعا شديدا حتى امتلأت نفوسهم بالغيظ ، فتجمعوا فى ميدان بين القصرين واستغاثوا بالحاكم كي ينظر حالهم ، وسألوه أن لا يهمل أمرهم ، وأن يولى تلك الأزمة الخانقة كل عنايته واهتمامه ، وجراء هذا الضغط الشعبى الهائل لم يملك الحاكم بأمر الله إلا أن ركب حماره وخرج على الناس قائلا : ( أنا ماضٍ إلى جامع "راشدة" اسم قبيلة نزلت فى هذا المكان فى أثناء الفتح الإسلامى لمصر، فأقسم بالله لئن عدت فوجدت فى الطريق موضعًا يطؤه حمارى مكشوفا من الغلة لأضربن رقبة كل من يقال لى إن عنده شيئا منها ولأحرقن داره وأنهبن ماله ).

ويبدو المعنى واضحا، فقد أعلن الحاكم أنه ذاهب إلى الجامع المسمى "راشدة" وأنه يريد أن يعود فلا يجد مكانا من الأرض إلا وعليه الغلال والحبوب التى يحتفظ بها الناس ويدخرونها فى بيوتهم، ومن يخالف ذلك فيخبئ شيئا من ذلك فى بيته عليه أن يلقى مصيره من الذبح وحرق داره ونهب ماله، وبعد أن عاد الحاكم - آخر نهار ذلك اليوم- ماذا وجد؟ وجد أن الغلال والحبوب قد حملت من البيوت وألقيت فى الطرقات بشكل منظم، فأمر بأن يأخذ كل واحد من الناس بقدر ما يحتاج فى اليوم، على أن يكون الدفع مؤجلا وبفائدة بسيطة للغاية، ثم خير أصحاب الغلال بين أن يبيعوا بالسعر الذى يقرره هو بما فيه الفائدة المحتملة لهم؛ وبين أن يمتنعوا فيختم على غلاتهم، وبالتالي لا يمكِّنهم بيع شيىء منها إلى حين دخول الغلة الجديدة، فاستجابوا لقوله وأطاعوا أمره كارهين، فارتفع الضرر ومرت الأزمة.

أليس في قصة الحاكم بأمر الله ما يكفي من العظات والعبر التي ينبغي أن تتبع في وقتنا الحالي ؟










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة