7 مواقف أثرت فى حياة "الطفل" يحيى الجمل

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016 07:00 م
7 مواقف أثرت فى حياة "الطفل" يحيى الجمل يحيى الجمل
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى كتابه "قصة حياة عادية" الصادر فى طبعته عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقدم لنا الفقيه الدستورى الراحل الدكتور يحيى الجمل، لمحات من حياته وصفها بـ"العادية"، قدمها بطريقة روائية بالغة التشويق ولغة أدبية مبسطة مستخدمًا فى كثير من الأحيان ضمير الغائب، ولغة القص والتدخل الحميم بين الذاتى والعام.

ومن يقرأ الجزء الأول من هذا الكتاب سوف يدرك العديد من المواقف التى كان لها أثر كبير فى تكوين شخصية أحد أعلام مصر، والتى نرصد بعضها من هنا، بنفس أسلوبه الروائى البديع، لنتعرف معاً على تلك المواقف التى أثرت فى شخصيته.

 

أولاً: التعرف على أمه الحقيقية

كان منظر جدته وهى مسجاة على فراش الموت لا يكاد يبرح خاطره، لقد كان يسمع من الناس أنها جدته، ولكنه لم يعرف أماً غيرها فقد احتضنته وهو لم يجاوز العام إلا بشهور قليلة، وعاش معها فى تلك القرية من قرى البحيرة يعب من حبها وحنانها عبا ويتمتع بما أفاء الله به عليها من بعض الثراء لا يشاركه في ذلك أحد، ذلك أن جدته تلك التى اعتصرها الموت منذ الأمس الحزين، لم تكن قد أنجبت إلا أمه فلما رزق الله أمه بغلامين رأت هى تخفيفاً عن ابنتها وملئاً لحياتها أن تأخذ ثانى الغلامين لتقوم على تربيته، وظل فى كنفها حتى جاء ذلك اليوم الأخير وجاء معه من عرف فيما بعد أنهم أمه وأهل أبيه.

 

ويعرف الصبى بعد ذلك أن له أماً غير تلك التى كان يعيش معها والتى لم يعرف له أماً غيرها، أما كان يراها فى زيارات خاطفة.. ويعرف أكثر من ذلك أن له أخاً يكبره بأربع سنوات وأن له أختاً تصغره بثلاث سنوات وأن له أباً وأن عليه منذ اليوم أن يعيش مع تلك الأسرة الجديدة وأن يعايشها وأن يرضى بهذا الواقع الجديد الغريب.

هكذا بدأ حياته الجديدة ضائعاً أو كالضائع .. وأدرك بعد فترة أنه قد حيل بينه وبين الضفة الغربية من النيل، وحيل بينه وبين تلك القرية من قراها التى نعم فيها بدفء الحنان وغمرة الحب على نحو لم يجد له عوضاً قط.

 

ثانياً: قصة الريال والشيخ والفلكة

ذهب الفتى إلى طنطا مع أخيه ليكمل حفظ القرآن فى كُتَّاب الشيخ عبد الحميد قشطة ذى الشهرة الواسعة فى الصرامة والقسوة.. وتزايد قدر ما يحفظه من القرآن الكريم يوماً بعد يوم، وعرف عنه بين لدته سرعة الحفظ وحسن الإلقاء، وكان الشيخ فخوراً به .. وكان والده هو الذى يشعره برضا الشيخ عنه وكان مظهر ذلك أن يعيطيه – دون أن يعلم أخوه الكبير – عشرة قروش كاملة لا دخل لها بمصروفهما الذى كان يتصرف فيه الأخ الأكبر بطبيعة الحال .. ولا يذكر الفتى تلك المناسبة السعيدة أو التعسة التى جعلت والده يعطيه ذات مرة "ريالاً" صحيحاً من الفضة .. وظل الريال فى جيبه أياماً لا تمتد إليه يده إلا لكى تطمئن عليه.

 

وفى يوم من الأيام والفتى فى الكُتَّاب يستظهر بعض آيات القرآن الكريم، إذ به يضع يده فى جيبه ليجد أن رياله قد ضاع، ويبحث مرة ومرة دون جدوى ويحاول أن يخفى ما ألم به من اضطراب شديد ولكنه لا يستطيع إلى ذلك من سبيل، ويلاحظ الشيخ أن تلميذه تصدر عنه حركات غير عادية وأنه قد انصرف عن مصحفه، وأن رأسه قد توقف عن الاهتزاز الذى يصاحب عملية القراءة، وأنه يضع يده فى جيبه ثم يخرجها ليضعها مرة ثانية، وأنه يدير رأسه تحت "التختة"، وأن أمره كله ينبئ عن أن شيئاً غير طبيعى قد حدث، ويقترب منه الشيخ بطوله الفارع المخيف ورائحة "النشوق" تفوح منه ليسأله عما به، وينكر الفتى أن شيئاً قد حدث، ويحاول جاهداً أن يسترد ما فقد من هدوء، ولكن الشيخ لا يجوز عليه شيء من ذلك ويعنف الفتى ويشده من يده شدة كادت ذراعه الصغيرة أن تنخلع لها، ولا يملك التلميذ إلا أن يعترف لشيخه بالكارثة التى وقعت وبأن "الريال" الذى أعطاه له والده قد ضاع وأنه قد ضاع فى الكُتَّاب لأنه تحسسه أكثر من مرة منذ الصباح.

 

ويأخذه الشيخ من يده والفتى يرتعد ولا يعرف ماذا ينتظره إلى أن ذهب به الشيخ إلى المكان الذى توجد به "الفلكة" حيث أمر به فوضعت رجلاه فيها وضربه الشيخ ضرباً موجعاً .. إلا أنه لم يستطيع أن يدرك حتى يومه هذا لماذا ضربه الشيخ وما الذى جناه ليستحق عليه العقاب، لقد كان به من ألم ضياع "الريال" ما يكفيه ولكن ذلك لم يكف الشيخ فمده فى "الفلكة" لأول مرة فى حياته، ولكنها على أية حال لم تكن آخر مرة.

 

ثالثاً: أول كتاب فى حياته دفعه لحب القانون والمحاماة

كان الفتى يسمع أخاه وأبناء عمومته يتحدثون عن مقالات الرسالة والرواية والمعركة الأدبية التى تدور رحاها بين الرافعى والعقاد وكان أخوه من المتحمسين للرافعى وابن عم له – مات يرحمه الله – من المتحمسين للعقاد وابن عم ثالث يجامل هذا تارة وذلك تارة أخرى ويرى أن كلاً من الأديبين الكبيرين لا يخلوا من ميزة، وكان الصبى يسمع ذلك كله لا يكاد يعى منه شيئاً، إلا أن ذهنه تفتح إلى شىء جديد.

 

وعرف أن ثمة دار للكتب وأخرى للعاديات فى مدينة طنطا – وكانتا آنذاك فى مبنى واحد قريب من ميدان الساعة على قدر ما يذكر – فكان يتردد عليهما كل يوم جمعة ليقرأ ما يستطيع عن قصص مترجمة أو غير مترجمة مما لا يذكر شيئاً منه الآن، ولكن الكتاب الذى مازال عالقاً فى ذاكرته كان من تأليف الأستاذ حسن الشريف وكان عنوانه "المآسى التاريخية الكبرى" وكان يدور حول أحداث الثورة الفرنسية بطريقة روائية بالغة التشويق، ولعل حبه للتاريخ وشغفه بقراءته فيما بعد يرجع إلى تجربته الأولى مع ذلك الكتاب، الذى جعله يعيش أحداث الثورة الفرنسية الدامية ومحاكماتها الشهيرة على نحو لم يغادر مخيلته قط، ولعل هذا الكتاب أيضًا كان وراء رغبته بعد ذلك فى دراسة القانون وحبه لمهنة المحاماة.

 

رابعاً: مع "الزير سالم" وعقاب الشيخ قطشة

أغرم الفتى بالقراءة وأولع بها ولعاً شديدًا، وكان ذلك كله والصبى لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، ولا يذكر ذلك اليوم الذى اشترى فيه قصة "الزير سالم .. أبو ليلى المهلهل" من عيون الأدب الشعبى التى كانت رائحة آنذاك، وكانت تباع بالقرب من مسجد السيد البدوى نفسه.

وذات يوم لم يكن قد أكمل فصلاً من فصول الرواية فساورته نفسه أن يأخذها معه إلى الكُتَّاب، والنفس أمارة بالسوء، وأخذها فعلاً وأخفاها فى ثنايا جلباه وعندما جلس أخذ يقرأ فى قصة "الزير سالم" وتأخذه القراءة فى القصة وتستولى عليه حتى لينسى نفسه ومن حوله وينسى أنه فى كُتَّاب الشيخ قشطة، ويبدو أن صوته قد ارتفع قليلاً وهو يدندن بشعر تلك الملحمة الشعبية، ولم يشعر إلا بيد غليظة تمتد لتمسكه من رقبته ويد أخرى تمتد لتمسك الرواية المفتوحة .. ودارت به الدنيا وأسقط فى يده وأظلم الكُتَّاب كله من حوله وأحس كأن نهاي العالم ونهايته معاً قد دنت... وهاج الشيخ هياجاً عظيماً وأرغى وأزبد ولطمه على وجهه واقتاده معه ثانية إلى ذلك المكان الرهيب حيث توجد "الفلكة".

وكان ذلك اليوم فراقاً بينه وبين كُتَّاب الشيخ عبد الحميد قشطة ذلك أنه أعلن عصياناً لا عدول عنه وأعلن أنه لن يستمر عند ذلك الشيخ، بل أعلن أنه لن يكمل تعليمه إلا إذا أدخله أهله المدارس الابتدائية.

 

خامساً: خمس مليمات مقابل كل صفحة من "كليلة ودمنة"

كان أخوه الأكبر يريده أن يكون أديباً، ولعله لمس فى الفتى استعداداً لشىء من ذلك وهو يتابع تلك المحاورات المستمرة بين أخيه وبنى عمومته وأبناء القرية من طلبة الأزهر حول الرافعى والعقاد وطه حسين وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين، تلك الأسماء التى سمع الفتى عنها كلها وهو لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، بل ولعل أخاه أيضًا لمس ذلك الاستعداد فى فتانا حيث كان يريد أحياناً أن يقرأ فى الرسالة وحيث كان يقرأ فعلاً فى الرواية.

 

كان أخوه الأكبر يريده أن يكون أديباً مرموقاً يوماً من الأيام، ولذلك شجعه على أن يكمل القرآن، والأكثر من ذلك أن الأخ الأكبر كان قد سمع أو عرف أن الأستاذ درينى خشبة كان له ابن أخت من الأدباء النابهين الشباب وأنه – أى درينى خشبة – قد جعله يحفظ كليلة ودمنة لابن المقفع عن آخرها، ورغب أخوه فى أن يفعل الفتى نفس الشىء، وإمعاناً فى تشجيعه فقد نذر أن يعطيه خمس مليمات "قرش تعريفة" عن كل صفحة يحفظها عن ظهر قلب من "كليلة ودمنة".

 

سادساً: "أجب يلَى عليك الأمل يا جمل"

يذكر الفتى أن مفتشاً للغة العربية جاء زائراً للمدرسة وهو فى السنة الثالثة، وكان أستاذ اللغة العربية من الأستاذة الأكفاء، وكان الفصل من الفصول المعروفة بقوة التلاميذ وتفوقهم، وشاءت ظروف لم يدرك الفتى كنهها ألا يستطيع أغلب الطلاب الإجابة على على ما كان يثيره المفتش من أسئلة وأنه وحده الذى يظل رافعاً إصبعه طالباً الإجابة، وكان يجيب الإجابة الصحيحة، وأدى ذلك إلى إعجاب المفتش به إلى حد أنه كان عندما يلقى سؤالاً ولا يستطيع التلاميذ الإجابة عنه كان يتجه إلى فتانا قائلاً: "أجب يلىّ عليك الأمل يا جمل".... وقد ظلت تلك العبارة عالقة فى ذهنه إلى وقت بعيد.

 

سابعاً: بين "الرافعى" و"العقاد".. لا تغلق عقلك

كان فتانا يقضى صباحه يقرأ. وقد بدأ مشوار القراءة مع مصطفى لطفى المنفلوطى، وما يزال يذكر كيف استغرق فى قراءة "ماجدولين" حتى أنه كان لا يزال يحس بمرور الوقت من حوله، إلا أن فترة "المنفلوطى" لم تستغرق منه وقتاً طويلاً وإنما عبرها بسرعة إلى قراءات للمازنى وتوفيق الحكيم ثم محاولات بعد ذلك مع الرافعى وأخرى مع العقاد وغيرها مع طه حسين، وكان المنبع الخصب هو أعداد الرسالة، أعداد الرسالة فى سنواتها السابقة وأعداد الرسالة الجديدة، كانت الرسالة هى المدرسة الثقافية التى كان يمضى فيها ومعها شهور الصيف الأربعة، وكانت للرسالة شقيقة صغيرة اسمها "الرواية"، وفى الرواية التقى مع كثيرين من كتاب القصة القصيرة وكثير من المترجمات، وعلى صفحات الرواية يذكر أنه التقى مع نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم.

 

وكان يلقى تشجيعاً من أخيه وابن عمه "أمين"، أما أخوه فكان يريده أن يحب الرافعى ويقرأه ويأتم به، وأما "أمين" فكان لا يرى فى قراءة الرافعى خيراً يرتجى وأن الثقافة كل الثقافة والعمق كل العمق هى قراءة العقاد، وكان فتانا يسمع إلى أخيه ويسمع إلى ابن عمه ولا يريد أن يغلق ذهنه على أحد أو دون أحد من الكتاب الكبار جميعاً.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة