دخل الملك فاروق مكتبه ذات مساء ليقرأ بعض ملفات بمراسيم، ومراسيم قوانين يجب عليه أن يمهرها بإمضائه، فتح الملف الأول ووجد ورقة أراد أن يمهرها حتى قبل أن يقرأها على عادته، ولكن استوقف نظره أن آخرها كان يحمل عبارة «الضباط الأحرار» ولم يصدق عينيه، أخذ يقرأ الورقة التى جاء بها: «أيها الجيش الباسل ويا شعب مصر النبيل، إن ملكاً فاسداً فاجراً يحكمك، وقد آن أوان الخلاص منه».
لم يصدق الملك ما رآه، وحسب «مرتضى المراغى» آخر وزير داخلية قبل ثورة 23 يوليو 1952 فى مذكراته الصادرة عن «دار المعارف - القاهرة»، فإن فاروق لم يكمل قراءة المنشور ووضع كل أصابعه على لوحة أزرار الأجراس يدقها بعنف، وأخذت الأجراس لا ينقطع رنينها، هرع موظفو القصر وكبار ضباطه وخدم القصر إلى حجرة الملك ودخلوا عليه وهو يصيح: «أيها الخونة، سأقتلكم، سأعذبكم حتى تعترفوا، نعم إنكم خونة وأنا أعرف ذلك ولكنى سأقضى عليكم، ظلوا جميعاً واجمين صامتين فصاح: تكلموا من الذى وضع هذه الورقة؟، وأخيراً جرؤ كبير الحرس على التقدم نحوه وقال: هل يسمح مولاى بأن أطلع على الورقة؟ رمى الملك الورقة فى وجهه صائحاً: أنت المسؤول الأول عن انعدام الحراسة، أمسك الضابط بالورقة يقرؤها، وكلما تقدم فى القراءة ارتجف، قال الملك وهو ينظر إليه بغضب وعلى فمه سخرية واضحة: هل قرأتها يا رئيس الحرس؟، قال الضابط: نعم يامولاى، قال الملك: من الكلب الذى أدخلها إلى مكتبى؟، من جرؤ على إدخالها؟، وحاول الملك فى هذه اللحظة أن يلصق التهمة بخادمه الخاص ثم سكرتيره الشخصى، وعندما ضاق الأمر صرخ فيهم: «تكلموا أيها الخونة»، سأعرف من الذى وضعها؟، وسأضعكم جميعا تحت التحقيق».
يستكمل المراغى: «استعان الملك ببوليس السراى، وحجب عن وزارة الداخلية هذا الحادث، ولكنه تسرب إلينا»، ويذكرها فى مذكراته كدليل على أن منشورات «الضباط الأحرار» الذى تكون بقيادة جمال عبدالناصر بعد نكبة حرب فلسطين عام 1948، وصل توزيعها إلى الأماكن التى يتردد عليها فاروق، ويذكر كمال الدين رفعت فى مذكراته «حرب التحرير الوطنية بين إلغاء معاهدة 1936 واتفاقية الجلاء 1954» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة»: «شرعت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار التى انتخبت جمال عبدالناصر رئيساً لها فى عام 1950 فى إصدار المنشورات، وكانت هذه المنشورات تطبع وتوزع فى سرية تامة، إما فى صناديق بريد ضباط أركان حرب الجيش، أو باليد فى وحدات المشاة والفرسان والقوات الجوية، وكان جزء منها يوزع فى الجامعات وإدارات الحكومة المختلفة».
وحسب «رفعت» فإن موضوعات المنشورات كانت تدعو إلى القضاء على الاستعمار الأجنبى وأعوانه من الخونة المصريين والقضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال، وتكوين جيش قوى مهمته تحقيق استقلال البلاد، ولا يستخدم فى القضاء على الحركات الوطنية»، وفى هذا السياق جاء المنشور الصادر فى مثل هذا اليوم «12 نوفمبر 1951» بعنوان: «حيدر وصبور يتعاونان مع الاستعمار البريطانى ويخونان قضية الوطن»، وتضمن معلومات تؤكد للملك وأعوانه أن التنظيم لديه أدق الأسرار، قال المنشور: «دارت محادثة تليفونية بين حيدر «القائد العام للقوات المسلحة» فى القاهرة واللواء «صبور» فى الإسماعيلية، قال فيها حيدر: «قول لـ«روبرتسون» القائد الإنجليزى: إحنا متشكرين وإن شاء الله حنفذ لهم كل طلباتهم»، قام الجنود الإنجليز بتفتيش الصاغ جمال زبيب فى الإسماعيلية تفتيشاً مهيناً، وكان أحد الجنود يضع السونكى فى ظهره، ولما اشتكى الضابط لحيدر أجابه: «معلهش قول لإخوانك إحنا حنزود مرتباتهم 50%»، أبعد صبور باشا البكباشى أمين حلمى قائد مخابرات الجيش بالإسماعيلية من هناك لمواقفه الوطنية من تصرفات الإنجليز المجرمين، فى إحدى نقاط التفتيش طريق مصر الإسماعيلية أوقف ضابط سيارة بها ضباط إنجليز بملابس كانوا قادمين من القاهرة وأرادوا تفتيشها، فما كان من صبور الذى كان يركب سيارة أخرى خلف سيارة الإنجليز إلا أن منع الضابط من تفتيشهم وسب العساكر وقال لهم: «يا أولاد الكلب يا فلاحين أنتم بتدوروا على نكلة تسرقوها، هو إحنا قد الإنجليز، ويا رجال الجيش الأحرار لن يستطيع الجيش أن يؤدى واجبه الوطنى، فى القضاء على الاستعمار إلا بعد تطهير صفوفه من الخونة أعداء الوطن».