د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الديني (11) خطر احتلال المفاهيم

الجمعة، 11 نوفمبر 2016 11:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن أهمية تحديد المفاهيم في علم أو مجال لا تكمن في تمييز ذلك العلم أو هذا المجال عن فيره فَحَسْب،أو اختصاص تلك المفاهيم بحقلٍ ما من حقول المعرفة دوم غيرها؛بل تتعدى تلك الأهمية إلى ما يربو عن ذلك، وهو أن لا يتسوَّر على هذه المفاهيم مَن ليس مِن أهلها، فيضعها في غير ما قُصِدَ منها، ويُحَمِّلها ما لا تحتمل، أو يُلبسها ثوبًا قضقاضًا أو ضيِّقًا أو غريبًا عن معناها الذي وُضِعَت له، وغالب مَن يقوم بذلك أصحاب الهوى وغير أهل الاختصاص، بغير قصد أحيانًا وهو شرٌّ، وبقصد وتَعَمُّدٍ أحيانًا أخرى وهو شرٌّ من سابقه، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه " احتلال المفاهيم " .

ويُعَدُّ " احتلال المفاهيم " أشد خطرًا على المجتمعات وأمنها، وعلى حياة الأفراد وسلامة عقول أبنائها، من " احتلال الأوطان "؛ إذ هذا الأخير – وهو احتلال الأوطان – يأخذ وقتًا ويزول، أما الأول فقد تمر عليه أجيال أو عقود أو قرون وهو كامن في العقول ومُتَعارَفٌ عليه ومعمول به حتى استقر أنه في الثقافة من الأصول، فضلًا عن أن احتلال الأوطان يكون فاعله من غير أهلها، في حين يساعد على ابتداع ونشر " احتلال المفاهيم " مَن هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهذا هو مكمن الخطر وأصل الداء العضال .

إن " احتلال المفاهيم " يكون بتفريغها من حقيقة معناها، وإلباسها معنى غريب عنها، والسبب الأصيل في ذلك ثقافة " اجتزاء واختزال المفاهيم " أو " الجهل بالمفاهيم "، وكلاهما يؤدي إلى " اختلال المفاهيم " ثم إلى " احتلالها " .

وأشهر مثال واضح وصريح على الاجتزاء والاختزال ثم الاختلال ثم الاحتلال، هو مفهوم " الجهاد "، ذلك المفهوم لذي أخرجه ذوو الأهواء والفكر المتحجر عن معناه الذي يتفق الناس جميعا على نُبْله، إلى معنًى آخر تشمئز االنفوس من قبحه، ولا يختلف العقلاء الأسوياء على خطره وعظيم شرِّه .

ويتضح الاختزال المشين في هذا المفهوم حين نجد أن الجهاد في الشرع جاء على أنواع، يقول الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن : " الجهاد ثلاثة أضرب : مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[الحج : 78]، وقوله : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت : 69] "، وهي آية مكية، وجهاد المشركين المعتدين شُرِع في المدينة المنورة، فدل ذلك على أن المراد بالجهاد هنا هو جهاد النفس، كما قال المفسرون كابن جُزَي والقرطبي وغيرهما، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ"(رواه الإمام أحمد وابن حبان) . وكذلك مجاهدة الشيطان؛ إذ هو كالنفس في الميل إلى الدنيا وحب المخالفة واتباع الشهوات .

 ويأتي بعد ذلك الجهاد بمعنى قتال المعتدين علينا من الطامعين والمشركين والبغاة، الذين يضرون البلاد والعباد، ويفسدون في الأرض وينتهكون العِرْض، ويخرِّبون ويدمرون، وفيهم وردت الآيات الداعية إلى صدهم وردعهم أو قتالهم، كما قال الله تعالى : (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[التوبة : 41]، والجهاد هنا ليس بآلات الحرب فقط، وإنما بالقول واللسان والحجة أيضا، كما قال سبحانه : (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)[الفرقان : 52]، أي جاهدهم بالقرآن وما فيه من حجج ساطعة وبراهين قاطعة .

وجاءت آفة أصحاب الفكر المعوج والعين العوراء من أنهم اختزلوا المفهوم واجتزؤوه ثلاث مرات، ثم خالفوا شروطه، فكانت لا أقول ثالثة الأثافي بل رابعتها في فهمهم السقيم، وبيان ذلك :

أولا : أنهم جاءوا على الجهاد الذي يطلق على ثلاثة معانٍ على الأقل – النفس والشيطان والعدو الظاهر المعتدي – فحصروه في واحد منها فقط، وهو القتال دون غيره، فظلموا المصطلح النبيل الذي به يُدَافَع عن الأوطان والأنفس والأعراض والأموال، ثم ظلموا غيرهم ممن لم يقل بقولهم وعَدُّوه مناوئًا لهم، وأدخلوه في زمرة عدوهم الذي يجب مناهضته وقتاله . وهذا هو الاختزال والاجتزاء الأول .

ثانيا : زادوا على ما سبق – بعد أن جعلوا الجهاد بمعنى القتال – أن وجَّهوا سهامه إلى كل من يخالفهم في المعتقد والملة، بل امتد شطحهم إلى أن يُدْخِلوا فيه مَن لم يكن على هواهم ومشربهم، فزادوا رَهَقًا على رهق، وهم يجهلون أو يغفلون أو يتغافلون عن أن الجهاد بمعنى القتال شُرِع في الإسلام ضد المعتدي دون المسالم، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، قال الله تعالى في حق غير المسلم المعتدي : (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة : 190]، فهو قتال أمام قتال، وَرَدٌّ للظلم والعدوان، ولا علاقة له بمخالفة في العقيدة والأديان . وفي الجهاد ضد المسلم المعتدي على البلاد وأمنها، وعلى استقرارها وحفظ أعراضها قال عز وجل : (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة : 33] فهذا في حكم البغاة الذين خرجوا على النظام والاستقرار والدولة بالفساد وبالقتال، إذن فالقتال في الحالين للاعتداء والحرابة دون النظر إلى الدين أو المعتقد .

ثالثا : أنهم بعد حصرهم الجهاد ضد المخالف في الدين أو المعتَقَد، جعلوا وسيلته أدوات الحرب والقتل دون فيرها، مخالفين ما أوردناه سابقا، أن جهاد العدو قد يكون بالحجج والبراهين والأدلة القاطعة، كما في قوله تعالى : (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)، أي بالقرآن .

رابعا : أنهم خالفوا في شروط الجهاد، التي من أهمها : " إذن ولي الأمر "، أو ما يطلق عليه الآن مؤسسات الدولة، خاصة المعنية منها بأمور الحرب والقتال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ، فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ "(رواه البخاري ومسلم) ، يقول الإمام النووي شارحًا هذا الحديث: " الْإِمَامُ جُنَّةٌ: أَيْ: كَالسِّتْرِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَدُوَّ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَمْنَعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَحْمِي بَيْضَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَتَّقِيهِ النَّاسُ، وَيَخَافُونَ سَطْوَتَهُ . وَمَعْنَى يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ: أَيْ: يُقَاتَلُ مَعَهُ الْكُفَّارُ، وَالْبُغَاةُ، وَالْخَوَارِجُ، وَسَائِرُ أَهْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ مُطْلَقًا "(شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 230) ، ويقول ابن قدامة الحنبلي : " وَأَمْرُ الْجِهَادِ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةَ طَاعَتُهُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ "(المغني 9/ 202).

لقد اتضح لكل عاقل واعٍ كيف اختل ميزان الفهم عند أولئك الذين ادَّعّوا التدين وحماية الدين كيف أضروا بالإسلام والمسلمين بل وبالناس والأوطان، من خلال الجهل واتباع الهوى وحب الظهور، فوقعوا في شّرّك " اجتزاء واختزال المفاهيم "، الذي استدرجهم إلى " احتلال المفاهيم " فوضعوا للأسماء غير معانيها ومضامينها التي يعرفها أهلها المتخصصون فيها، فظلموا المفهوم، وظلموا أنفسهم، وظلموا دينهم، وظلموا الناس معهم، وصيَّروا النبيل المليح قبيحا، وحوَّلوا أدوات البناء والتعمير إلى معاول هدم وتدمير : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) . 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة