أكرم القصاص - علا الشافعي

د. عباس شومان

التجديد ومنهج التدرج

الجمعة، 11 نوفمبر 2016 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
طبيعة البشر التى خلق الله الناس عليها لا تألف الانتقال من حال إلى حال دفعة واحدة، وإنما يكون ذلك من خلال الانتقال المتدرج شيئًا فشيئًا، وقد راعت شريعتنا السمحة تلك الطبيعة البشرية فى تشريعاتها التى أرادت للناس أن يكونوا عليها، وجعلت من التدرج بأنواعه منهجًا وسمة من سماتها، ولم يكن يتخيل الصحابة أنهم بعد عدة سنوات من دخولهم الإسلام سيكونون على حالهم الذى أصبحوا عليه بما يشبه الانتقال من النقيض إلى النقيض.
 
ومن مسالك التدرج فى الدعوة ووسائلها ما أمر الله عز وجل به رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، بدعوة عشيرته الأقربين فى بداية الأمر، فقال تعالى: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»، ثم أمره بدعوة أهل مكة، فقال جل وعلا: «ولِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا»، ثم أمره بدعوة الناس أجمعين، فقال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ»، وقال عز وجل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ». وهذا التدرج المنطقى فى توجيه الدعوة للناس لتبدأ بالقربى القريبة ليستعين بهم النبى، صلى الله عليه وسلم، فى نشر دعوته لتشمل أهل مكة وما جاورها، قد صاحَبَه تدرج آخر فى الوسائل، وذلك من خلال الانتقال من خطاب الحكمة والموعظة كما فى قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ»، إلى الأمر بالصبر على الإيذاء وعدم رد الاعتداء كما فى قوله تعالى: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»، ثم الإذن برد الاعتداء كما فى قوله تعالى: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»، وقوله سبحانه: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ»، إلى الأمر بقتال من يناهض الدعوة الوليدة ويناصبها العداء سعيًا لإجهاضها والفتك بها كما فى قوله عز وجل: «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً»، وقوله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ»، وهو المعروف بجهاد الدفع المقصور على المعادين دون المسالمين.
 
ولقد تعددت صور التدرج فى شريعتنا الإسلامية، فهناك تدرج فى أركان الإسلام التى يلزم الناس الامتثال لها، حيث لم تنزل أركان الإسلام التى نحن عليها اليوم مجتمعة مع تكليف الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالرسالة، ولكن كان إسلام المرء فى بداية الدعوة يتحقق بركن واحد، وهو النطق بالشهادتين لا غير، ثم تنزلت بقية أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج بعد ذلك على فترات، يتخللها تحريم لأمور وكراهة لأمور وندب أو إباحة لأمور أخرى حتى اكتملت منظومة الأحكام التكليفية من الفرائض والواجبات والمندوبات والمكروهات والمحرمات لتشمل ما يقع فى حياة الناس وتؤسس لاستنباط أحكام الفروع الناشئات.
 
ومن صور التدرج فى التشريع الإسلامى أيضًا، التدرج فى حكم الأمر الواحد الذى لا يطيق الناس الامتثال إلى حكمه النهائى مرة واحدة، ومن أبرز صوره التدرج فى أحكام الزنى والخمر والربا، ففى الزنى لم يُفرض الحد المعروف جلدًا أو رجمًا بداية، ولكن قال الله تعالى: «وَاللَّاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»، ثم أتى السبيل فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»، وذلك لغير المتزوجين، أما المتزوجون فقد بيَّنت السنة النبوية حكمهم، وهو الرجم حتى الموت، حيث يقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وفى الخمر بدأ الأمر بالتنفير دون تحريم، يقول تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»، ثم انتقل الحكم إلى تحريم شرب الخمر قبل الصلاة بوقت لا يكفى لزوال السكْر، فقال تعالى: «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى»، ثم جاء التحريم النهائى بأن الخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ». وكذلك الحال فى حكم الربا، حيث بدأ الحكم بتقليل أهمية مكاسبه، فقال تعالى: «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ»، ثم تدرج الأمر إلى التحريم الجزئى، فقال تعالى: «لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً»، ثم جاء التحريم النهائى فى قول الله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِى مِنَ الرِّبَا»، وقوله سبحانه: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا».
 
وهذا الاستعراض الموجز لمنهج التدرج وصوره فى شريعتنا الغراء مقصودة للفت الانتباه إلى أهمية الاستفادة من هذا المنهج فى علاج مشكلاتنا الحياتية ولا سيما المستعصى منها، كعلاج الإدمان من المخدرات ونحوها، وذلك بالعلاج النفسى قبل الدوائى عن طريق إقناع المريض بضرورة التداوى، وبيان خطورة تماديه فى الإدمان على نفسه وأسرته ومجتمعه، وحتى العلاج الدوائى يحتاج إلى تدرج عن طريق تقليل جرعات المخدر والمباعدة بين أوقات تعاطيه لينسحب من دم المريض شيئًا فشيئًا حتى يشفى تمامًا، ويمكن الاستفادة من منهج التدرج أيضًا فى تحقيق آمالنا وطموحاتنا، فبعض الشباب يتعجل النجاح وترقى قمة الهرم الذى يمكن أن يصل إليه فى حياته العملية مثلًا دون أن يفعل شيئًا يُذكر فى سبيل الوصول إلى مبتغاه، ودون أن يكدح ويتعب لتحقيق آماله وطموحاته المشروعة، كما يمكن للدعاة، بل ينبغى عليهم، استخدام هذا المنهج فى دعوة الناس وردهم إلى جادة الصواب، وذلك عن طريق التخلى عن الخصال الذميمة شيئًا فشيئًا، ثم التحلى بالأخلاق الكريمة، لنصل فى نهاية المطاف إلى صورة المسلم المثالى خُلقًا وعملًا.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة