إذا سألت أى فرد فى أى بقعة بالعالم عن معنى الديمقراطية، فسيكون رده المنتظر، هو "حكم الشعب على الشعب"، وإذا كررت سؤاله بإعطائه مثالا للدول التى تطبق هذا النظام، سيقول دون تفكير: "أمريكا"، فهى ليست الراعية الأولى للديمقراطية وحسب، بل إنها تعمل جاهدة على تصديره إلى دول العالم، وترسيخ مبادئها، ولكن الحقيقة هنا، أن الديمقراطية الأمريكية المزعومة، ما هى إلا عبث وتحايل على إرادة الشعوب، وتحويلها إلى خدمة أهداف أعمق وأقوى من تضع فى يد مواطن عادى لتقرير مصيرها.
فبالنظر إلى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وبتحليل نظامها الانتخابى، نجد أنه ليس شرطا أن يكون الفائز برئاسة الدولة الأكبر فى العالم، أن يكون هو صاحب نصيب الأسد من عدد أصوات الشعب، وهو ما تأكد فى معركة "هيلارى - ترامب"، ومن قبلها انتخابات عام 2000 بين جورج بوش "الابن" وآل جور.
ففى انتخابات 2016 التى حسمها أكثر مرشح للرئاسة الأمريكية إثارة للجدل "دونالد ترامب"، فاز الفيل الجمهورى بالرئاسة رغم حصده أصوات ناخبين أقل منافسته هيلارى كلينتون ممثلة الحزب الديمقراطى.
هيلارى تتفوق فى عدد أصوات الناخبين ولكنها تخسر السباق
يعتبر النظام الانتخابى الأمريكى أن مواطنه غير كامل الأهلية لانتخاب رئيس للولايات المتحدة، ولذلك فهو يحتاج إلى مندوبين يصوتون عوضا عنه، فى نظام انتخابى هو الأكثر تعقيدا فى العالم، بل إن أغلب الأمريكان لا يفهمونه جيدا، وهو ما سنحاول توضيحه فى السطور التالية..
حصر المنافسة بين حزبين وقتل أحلام المستقلين
المنافسة الفعلية فى أى انتخابات أمريكية تُحصر بين الحزبين الأقوى والأكثر تأثيرا، وهما "الجمهورى" و"الديمقراطى"، فلا يذكر تاريخ بلاد العم سام أن حكمها مستقل إلا جورج واشنطن، أول رئيس لأمريكا، فهو نظام يمنح حق الترشح لأى مواطن، ولكنه يضع العقبات والعراقيل اللازمة لقتل فرصه فى المنافسة.. وذلك عبر هذا النظام المعقد:
تعداد الولايات المتحدة 324 مليون نسمة، منهم 219 مليونا لهم حق الانتخاب، موزعين على 50 ولاية، وتلك الولايات يخرج منها 583 مندوبا، يشكلون ما يسمى بالمجمع الانتخابى، وهم من يختارون الرئيس الجديد، وفى الغالب يكون هؤلاء المندوبين مجهولين، وهم موزعون كالتالى..
435 مندوبا بالانتخاب، و100 من أعضاء الشيوخ، و3 مندوبين من العاصمة.
بداية اللعبة تنطلق من انتخابات الحزبين الأقوى
فى بداية الأمر يجرى الحزب سواء "جمهورى" أو "ديمقراطى" انتخاباته الداخلية لاختيار مرشح يحمل لواء الحزب فى السباق الرئاسى عن طريق المندوبين أيضا، أى أن الشعب الأمريكى ينتخب مندوبين لاختيار المرشح الحزبى، ثم يختار مندوبين آخرين لانتخاب رئيس له، إذا فإن هذا "اللوبى" هو من يتحكم فى تنصيب الشخص، الذى يُمنح شفرات الصواريخ النووية الكافية لنسف الكوكب.
قواعد لولبية لتحديد مندوبى الأحزاب
يبدأ كلا الحزبين الكبيرين فى اختيار مندوبيها وفقا للوائح وقواعد داخلية يحددها الحزب دون غيره، أو أى تدخل من أى جهة، بل وله الحق فى تغييرها فى كل مرة وفق ما يرتئيه الحزب، ففى ولاية ويسكونسن فإن الانتخابات تكون مفتوحة حتى للأحزاب المضادة، فمثلا من الممكن للناخب الديمقراطى أن يصوت فى انتخابات الحزب الجمهورى، ويختار مرشحا ذا أسهم أقل فى المنافسة أمام مرشح حزبه الأصلى، حتى يسهل مهمة منافسة مرشحه، "فاهم حاجة؟".. بمعنى أن تحديد المرشحين النهائيين يجب أن يظل سيجالا بين الناخبين، حتى تصبح الكلمة النهائية للمندوبين، إذا فإن المندوبين فعليا هم المتحكمون فى اختيارات الحزب لمرشحيه.
منح المندوبين الكلمة العليا فى الفصل خلال طريقتين انتخابيتين
وتتم الانتخابات الداخلية للأحزاب بطريقتين، إما طريقة غير مباشرة، وهى أن يصوت الناخبون للمندوبين وفق إعلاناتهم المسبقة عن هوية من سيرشحونهم عن الحزب، وفى الغالب فإن الناخبين لا يعرفون هوية هؤلاء المندوبين إلا من خلال ورقة الاقتراع، أو إن كان منهم مندوبين "سوبر" كشخصيات سياسية بارزة، أو رؤساء سابقين، هذا بخلاف المندوبين "الحائرين"، أو غير الملتزمين بمرشح محدد، ففى ولاية بنسلفانيا، وهى إحدى الولايات الكبيرة، نجد ظاهرة المندوبين غير الملتزمين بمرشح، الذين يخلفون وراءهم ظاهرة اختيار عشوائى من الناخبين، لأنهم لا يعرفون من سيصوت لهم ولمن سيذهب صوتهم، وهنا يمكن لهؤلاء المندوبين أن يفسدوا أصوات أى مرشح حتى وإن كان عدد أصواته هو الأكبر، مثلما حدث مع ترامب فى لويزيانا، عندما حصد عدد الأصوات الأكبر لكنه خسرها.
الطريقة الثانية هو أن يتم الاقتراع على مرشح الحزب فى مؤتمر شعبى بالورقة، وهذا الأمر لا يتم إلا بحضور جميع الناخبين فى نفس المكان ونفس الوقت، ومن لا يحضر يخسر صوته، فتخيل معى مثلا أنك مواطن أمريكى، فلكى ترشح أحدا للرئاسة، فإما أن تختار عشوائيا بين المندوبين، أو تذهب رغما عنك فى وقت ومكان لم تختاره ولم تحدده، وربما لا يناسبك، كى تختار مرشحك، وبعد ذلك يتم إعلان المرشح الذى أجمع عليه المندوبون.
صدمة المندوب
انتهينا من انتخاب المرشحين للرئاسة، هيا إلى صدمة اختيار مندوبى المجمع الانتخابى، نعم صدمة فهى طريقة لا يمكن تصديق حدوثها فى دولة تدعى تقديسها لإرادة الشعوب، أولا.. فإن توزيع المندوبين على الولايات الـ50 لا يتم بالتساوى، إنما بالوزن النسبى، فكلما زاد عدد مواطنى الولاية زاد عدد المندوبين، بغض النظر عن عدد الناخبين الحقيقيين فى الولاية، أو مدى تأثيرها ومشاركتها السياسية.
الآن لدينا مرشح لكل حزب، إذا فلتبدأ مرحلة انتخاب المندوبين، والعملية الانتخابية هنا لها قواعد ثابتة، ولكن هوية المندوبين معروفة، بل إن أغلب الولايات محددة مسبقا وفقا لسيطرة كل حزب، فهناك تجد ولايات باللون الأحمر، وهى ذات المناخ "الجمهورى"، بينما يقابلها اللون الأزرق ذو الطبيعة "الديمقراطية"، مع الأخذ فى الاعتبار أن القاعدة اللولبية فى حساب عدد الأصوات، قد تنسف كل الحسابات، وهى أن المرشح الذى يفوز بعدد مندوبين أكثر داخل الولاية، يحصد جميع مندوبيها.
وتلك القاعدة تكشف عن احتمالية مرعبة، وهى أن عدد الناخبين الأكثر لمشرح غير كاف للفوز، إذا ما كان عدد المندوبين أقل، فعلى سبيل المثال، فى ولايتى تكساس وفلوريدا، نجد أن عدد المواطنين بتكساس 16 مليونا، وعدد فلوريدا 13.5 مليون، وبالتالى عدد المناديب لتكساس 38، لأنها الأكثر كثافة سكانية، وفلوريدا 29 مندوبا، الغريب أن عدد المشاركين فعليا فى الانتخابات داخل فلوريدا أكبر من تكساس، حيث سجلت فلوريدا فى 2012، 8.5 مليون صوت انتخابى من أصل 13 مليونا عدد سكانها، زادت إلى 14 مليونا فى 2016، وهذا يقودنا إلى أن المرشح يمكنه الفوز بالولايتين حتى إذ كان حاصلا على نصف عدد أصوات منافسه، بلعبة المندوبين، وتلك الواقعة تكررت 4 مرات آخرها بوش وآل جور، حيث فاز بوش فى فلوريدا، بفارق 537 صوتا، لكنه حصد 29 مندوبا، بينما فاز آل جور فى ولاية إلينوى بـ569 ألف صوت، ولكنه حصد 20 مندوبا، وهنا تبقى الولايات الكبيرة هى الأهم والأكبر وزنا حتى وإن كان سكانها كسالى سياسيا، وغير إيجابيين.
وهذا كله يتلخص فى عدد الأصوات التى حصدتها هيلارى كلينتون على مستوى الولايات الـ50، والذى فاق ما حصل عليه دونالد ترامب، ولكن الفائز هنا هو من نصبه المندوبون رئيسا للولايات المتحدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة