رواية ميسون صقر

جمال فتحى يكتب: "فى فمى لؤلؤة " ملحمة البحث عن الإنسان.. وسؤال الكتابة

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016 05:30 م
جمال فتحى يكتب: "فى فمى لؤلؤة " ملحمة البحث عن الإنسان.. وسؤال الكتابة غلاف رواية فى فمى لؤلؤة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

رواية أقدار ومصائر وأجيال وأزمنة

تحتاج إلى عشرات القراءات للولوج إلى عمقها وكشف وجوهها المتعددة

للشاعرة والروائية والتشكيلية ميـسون صقر مشروع أدبى وإبداعى متعدد الأوجه، تتجلى سماته تدريجيا عبر كل عمل جديد تقدمه  سواء رواية أو ديوانا شعريا أو معرضا تشكيليا، أما روايتها الأخيرة والثانية بعد "ريحانة " والتى صدرت مؤخرا طبعتها الثانية عن الدار المصرية اللبنانية تحمل عنوانا جدليا هو " فى فمى لؤلؤة "، فهى محطة هامة جدا فى مشوارها الأدبى، بل هى – إن جاز ليا القول -  لؤلؤة مشروعها الأدبى والإبداعى  الفريدة (مع تقديرنا الكامل لدواوينها الشعرية الرائعة).

الكاتبة ميسون صقر

ولابد لنا ونحن نتصدى لمقاربتها من التسليم بداية بأن عشرات القراءات قد لا تكون كافية للولوج إلى عمق تلك الرواية، والكشف عن وجوهها المتعددة ولا للدخول من أبوابها الكثيرة، لاسيما أنها رواية ذات نفس ملحمى، بل هى بالفعل ملحمة سردية كبرى، ليس فقط استنادا لعدد صفحاتها التى قاربت 600 صفحة، ولكن لأنها رواية أقدار ومصائر وأجيال وأزمنة، تعددت فيها البطولات وتغيرت المصائر مرات وحضر الموت والحياة بأشكال متعددة وامتزج فيها الخيال بالواقع  بالأسطورى، وتداخلت الأزمنة حد التماهى، وتنامى الخيال، وصعدت دراما الأحداث وهبطت بالقارئ  ليكتم الأنفاس انفعالا مع الأحداث حينا ويسترخى مستسلما لعذوبة السرد حينا، فضلا عن البعد المعرفى والمعلوماتى المتواصل بطول الرواية فيما يخص تاريخ المنطقة (الإمارات) وجغرافيتها وعالم اللآلئ بأسمائها وصفاتها ومعارفها.  

بطلة الرواية هى "شمسة" إماراتية الأصل تعيش فى القاهرة وتدرس فى جامعتها الأم على يد أستاذ جامعى "عز الدين"  تشعر نحوه بشىء ما، رغم فشلها فى تجربة سابقة مع زميلها "سامح"  ضيق الأفق أصولى النزعة، تختلف مع  أستاذها حول موضوع بحثها فى دراستها العليا، فتنصرف عن توجيهاته وتلبى نداء نداهة البحث وشغف الكتابة ليدفعاها إلى تحد اختياراته والذهاب إلى منبتها فى الخليج حيث الحنين إلى "تاريخ من الجمال والغبن والوجع" وحكايات الجدة عن ظلمة البحر والجثث المدفونة فيه وعن الغطس واللآلئ والمحار والمراكب والصيادين، لتبدأ مغامرتها هناك فى حراسة صديقتها  المصرية التى ترافقها خوفا عليها "مروة"  ومساعدة "سالم" المخرج الإماراتى الذى يسعى لتكوين جماعة للفن البصرى، حيث يزورها  هناك فى فندق إقامتها "مرهون" البطل ذو المسحة الأسطورية  أو "حفار القبور" فى مشهد تهيمن عليه الهلوسة، حاملا لها رسالة أو نصيحة بالإقدام بلا خوف أو شك على ما ترغب فى فعله، قبل أن  تراه مرة أخرى فى رسائل "وليم " الرحالة/الجاسوس فى مركز المخطوطات والذى تفتح وعيها على عوالم سحرية  فيها  " مرهون وآمنة ومسعود وغانم و خلفان  والنوخذة  والسعيد والسيب والشحى  والخيام والبحر والغطس والصيادين  والمحار "  لتلتقط أطراف الماضى البعيد  وتبدأ فى نسج الحكاية وتكمل فراغاتها بوسائل مختلفة من  وثائق وزيارات لمواقع أثرية كالحصن القديم "قصر الحاكم "، لتسير الرواية فى خطين زمنيين وعالمين هما الحاضر والماضى. 

الشاعر جمال فتحى

وقد نجحت ميسون فى الوقوع على تيمة رئيسية / قماشة روائية /  عريضة وفضفاضة / ومشعة تتميز بالثراء الأدبى والمعرفى كما تتسع لتساؤلات الحياة والموت و دراما الأحداث واختلاف الشخوص، تمثلت فى عالم الغوص واصطياد اللؤلؤ من مياه الخليج  كمهنة وحرفة أساسية اشتغل بها أهل الإمارات لكسب لقمة العيش  أوائل القرن  الماضى فترة الاحتلال البريطانى وقبل اكتشاف البترول، حيث عاش الأجداد، فكانت إطارا منحها الفرصة لتخوض بحرية فى تاريخ وجغرافية المكان عبر صراعات البحث عن الرزق فى ظلمات البحر وشظف العيش وبؤس الحال فيما لم تكن المدنية قد فرضت كلمتها  بعد  ؛ فنراها تقول ص133 مثلا تجسيدا لمرارة تلك الحياة  وبؤس حال الصيادين "  بقسوة الواقع والحياة الجافة، الحياة المريرة المليئة بالبؤس.. .  نبدأ العمل رجالا مكتملى العدد إلا من أصابهم المرض، أو ضربتهم الحمى، نبدأ فى الغوص، بعشر غطسات ثم نستريح قليلا، يكون فريق آخر قد بدأ الغطس، وهكذا تمر أيامنا ما بين غطس، واستراحة وما بين فلق محار والنوم مستهلكين، لا نفكر حتى فى شهواتنا أو رغباتنا " 

ميسون الشاعرة والساردة والتشكيلية كما عرفناها من أعمالها مبدعة مهمومة دائما، مؤرقة طوال الوقت تحمل تاريخ منطقتها وتاريخها الإنسانى  الخاص العام  تبحث تارة عن إجابات لتساؤلات موجعة، وتارة  تبحث تنحت  تساؤلات بكر لإجابات جاهزة، وقد دخلت  مغامرتها الروائية  " فى فمى لؤلؤة " مدفوعة بشغف الكشف والاكتشاف والبحث فى تساؤلات تخص الزمان والمكان، الماضى والحاضر، الحياة والموت،  القدر والمصير، القيمة والثمن،  العالم والإنسان "، وذلك الأخير " الإنسان " هو شغل ميسون الشاغل فى الرواية، فمثلا تقول ص 262 على لسان بطلتها " شمسة " متحدثة عن ناس وبشر تلك المنطقة من العالم الذى  تدور فيه الرواية والذى تنتمى إليه وتحن لتاريخه وتشغف بكشفه " " أن أكتبهم لا أكتب عنهم " وتقول 263  "  لذلك وجدتنى أكتب عن الإنسان، بالطبع هذا الكائن الذى يعيش فى "، وإذا كان الإنسان الذى هو شغلها الشاغل غير منفصل عن العالم بتواريخه وأحداثه ومفارقاته فالمرور إليه  واكتشافه لن يكون إلا عبر آلة الكتابة "  كما تقر ميسون أو شمسة " إننى أمر من خلال الكتابة إلى العالم"  ص263،  وهكذا فهى تمتطى صهوة الكتابة لتفذ إلى العالم الذى يعيش فيه ذلك الإنسان، ولا بأس أن تطرح فى الطريق تساؤلاتها عن سر الكتابة ذاتها وجوهرها وجدواها؟  فالكتابة والإنسان والعالم سراديب يؤدى كل منها للآخر بطريقة ما، وإذا كانت الكتابة ذاتها مغامرة (عند ميسون ) للوصول إلى الإنسان والبحث فى حاضره وماضيه واكتشاف دهاليز نفسه والغوص فى ظلمات روحه، فإنها لم تلزم نفسها فى تلك المغامرة بالبحث عن إجابات مريحة لتساؤلات ملحة، ولكنها تركت نفسها لمتعة الاكتشاف  لتبدأ به وتنتهى " ربما " عكس المتوقع من رحلة الكتابة بتساؤلات جديدة  كما تقول  نصا "أبدأ بالاكتشاف، لا بالبحث، وأنتهى بالسؤال لا بالإجابة" ص 263، ومن تساؤلاتها الكثيرة والتى ألقتها كالبذور فى أرض الرواية على ألسنة شخوصها  مثلا:  

اليقين وما هو اليقين أصلا؟ ص24 "الجدة، من منا ظل على براءته الأولى؟ ص127، هل دموعنا من البحر أم أن البحر من دموع الأحزان والآلام فى هذا العالم ؟! 129( مرهون )، ما معنى الحياة إذن؟ لا شيء ص131 (الراوية)،  تنقص هذه السفينة وأصحابها البهجة ومن أين تأتى إلا من قلب مستريح؟ 136 (وليم)، ما الذى ستخسره؟ ولما لا تجرب؟  303 (آمنة) وهكذا نثرت الكاتبة هواجسها وتساؤلاتها المعجونة بماء الشعر والفلسفة، وإذا جاز لنا القول بأن داخل كل نص أو رواية سؤال ما فإن السؤال الرئيسى فى تلك الرواية فى نظرى هو الإنسان؟ وميسون إذ تبحث عنه عبر الكتابة فى الماضى والحاضر فهى تبحث بالتالى عن ذاتها فيه، وتكتشف تاريخها معه

"فى فمى لؤلؤة" ليست رواية واحدة بل هى روايات متداخلة وعوالم متلاحمة وحكايات متقاطعة  ؛ استطاعت كاتبتها  بناء طبقات من الحكى والبنى السردية المتراكبة، وأمتعتنا بعزف سيمفونية سردية وروائية رائعة استعانت فيها  بكل أدوات الكتابة وتقنياتها وفنونها وأنواعها بتراسل وتداخل لا يحتاج إلى تبيان  لاسيما الشعر الذى حضر بقوة فى الرواية بأشكال متعددة، بل وقدمت الكاتبة  أكثر من صولو سردى داخل الرواية / السيمفونية مثل: حكاية وليم وكاترين  كتنويعة  على اللحن الرئيسى تكررت كثيرا  ؛ فى حين سار السرد فى خطين زمنيين هما الماضى والحاضر اللذان تماسا وتقاطعا بل وتماهيا كثيرا ومثال على تماهى الخطين أو العالمين حيث التحم الزمنان ما كتبته فى وصف الحال على السفينة كأنها هناك  مشهد  تقول فيه شمسه ( بنت الحاضر ) :   " رأيت السفينة كما لو أنها أمامى، ها هو وليم يعلم غانم كيف يستخدم الكاميرا، رأيت مرهون خارجا من الغوص، ندهت :   يا مرهون..، لم يسمعنى، لكن مسعود ظل ينظر إليه..، وأمعن النظر إلى، حتى أخافتنى، نظرته، ارتعدت مفاصلى، لملمت أوراقى وأغراضى، وقمت أعود أدراجى إلى الفندق " شمسة ص307، وكذلك تماهى الحاضر مع الماضى  وسقوط حاجز الزمن حين زيارتها للحصن  عندما تقول " فوجدت خيولا وجمالا وكر وفرا، سألت ماذا " قالوا:  " معركة " سمعت صليل السيوف ورأيت قتلى " ص151

وقد جاء السرد بطول الرواية كنهر يجرى بإيقاع منتظم موجاته متتابعة بعضها هادئ  لطيف  وبعضها كالإعصار كاد يغرق القارئ فى دوامة الإثارة والفضول والشغف، فى حين قامت الكاتبة  بتوظيف عددا  من  النصوص الموروثة المدونة والشفاهية على اختلاف أشكالها من الشعر والأمثال والأقوال المأثورة للفلاسفة  والحكماء والنصوص المقدسة من القرآن والإنجيل والعهد القديم  فجعلتها فى افتتاحيات  المغاصات " الفصول " جعلتها شطآن لنهر السرد، تحازى الرؤية وتحدد لها مجراها وتساعد القارئ الذى يجنح به التيار على الإبحار مجددا فى اتجاه الرؤية/ المصب  ومن هذه النصوص الكثير مما يتعلق باللآلئ ودلالاتها ورمزيتها:   كتصديرها للفصل الأول ص9 " تحصيل الحكمة خير من اللآلئ " العهد القديم إصحاح أيوب..  وكذلك قول الحكيم " يوجد ذهب ولآلئ، أما شفاه المعرفة فمتاع ثمين " ص7،  " وقد شبه الرب يسوع المسيح ملكوت السماء بلؤلؤة واحدة كثيرة الثمن " متى 231

على أن اللؤلؤة العظيمة  فى الرواية والتى تقاتل على حيازتها الجميع وباستخراجها على يد مرهون البطل الخيالى الذى عشقته آمنة سرا ثم جهرت بعشقه وارتمت فى أحضانه بعد وقت طويل من البحث عنه فى بلاد الله  بعد هروبها من يوسف " زوجها "  وركوبها البحر مع كاترين وتأسيس حياة جديدة وتجارة وثروة، تلك اللؤلؤة التى  تحول مجرى الأحداث بسببها وتصاعدت الدراما وتسارع نبض السرد، هى رمزا مفتوح الدلالات والمعانى ؛ فهى إجابة  الثراء على سؤال الفقر فى عيون الصيادين البؤساء، و السعادة  فى سؤال الشقاء، وهى النورالنابع من جوف الظلمات، وهى الحقيقة التى يعتقدها الجميع، ويحاول كل منهم الوصول لها بطريقته الخاصة،  فكل لؤلؤة كبيرة كانت أو صغيرة هى حقيقة فى ذاتها، تلك الحقائق التى تظل خبيئة المحار البعيدة التى تسكن الأعماق وقد يكلف الوصول إليها الحياة نفسها.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة