يقف كثيرا أمام المرآة يمشط شعره، متحدثاً إلى نفسه بصوتٍ خافت. ضُبط وهو يحّرك يديه أثناء الحديث، تصنعوا عدم رؤيته منعاً لإحراجه، إلاّ أنه شعر أنهم رأوه، اعتاد أخذ المرآة معه عند النوم ليشاهد الظلام منعكساً على سطحها الأملس، كأشعة الشمس التى تملأ حجرته، ويعكسها على شرفات ونوافذ البيوت المقابلة، تغشى الأشعة عينى فتاة تقف فى شرفة مقابلة، فترشه بماء يصدر موسيقى تخطف النوم من عينيه.
تدخل حجرتها تاركة ضحكة معلّقة فى الهواء. احتفظت بالأشعة فى كشكولها. أعطت منه لزميلاتها كتميمة حظ تضمن لهن النجاح. ضايقته سحابة وحيدة متخمة بالغيوم تتحسس طريقها وسط سحب بيضاء، خائفة من أن تلتفتن إليها وتبدأ المعركة، ركّز الأشعة عليها لتنزف مطراً أغرق الشرفة وبقية حجرات البيت، فانتبهت السحب إلى وجودها فقمن بقتلها. أثقل سطح المرآة بالأشياء التى عكسها الولد. ظهرت تجاعيد خفيفة أعاقتها عن قراءة تلك الأشياء.
تُخرجها لتلعب معها عندما تكون بعيدة عن وجه الولد. تستمتع بمشاهدة طفلين يلعبان بالكرة، ريح مارة بجوار الشرفة، تقبلها وتعطيها بعضاً من دفء، ثم تتركها للبحث عن ابنها الضائع فى السماء. أوتلعب مع ورقة شجرة تحكى عن طائر اللقلق الذى وعدها بالزواج، ثم طار بحثاً عن ورقةٍ أخرى. تتذكّر المرآة وجودها داخل فاترينة عرض بجوارألعاب بلاستيكية كقطار وطائرة، قبل أن تُعجب الولد ويملء وجهه سطحها الأملس. تتحرّك قليلاً فتعكس أقدام ربّة بيت جاءت للتسوق. تقضى بقية الليل فى الحديث عن المرآة الكبيرة التى اشترتها أسرة تقيم بعيداً، لتعكس وجوههم الكثيرة.
وصمت منزلهم الموحش، يقدم لهم رجل عرضاً راقصاً يزيل عنهم حزن الفراق، و يقترب طفل أخضر العينين من الفاترينة ليحدّق فيهم، فتتراجع إلى الخلف وتصطدم بقطار متوارياً عن الأنظار، لتلفظ ظلاً وضحكتين من ليلة أمس، كانتا فرصة لتدريب مرآة أخرى على كيفية عكس تلك الأشياء على سطحها. حكت لأخواتها أنها فى الأصل قبضة رمل من صحراء لا تعرف اسمها، ترك عليها رجل أثر أقدامه الكبيرة. فشلوا فى إزالة الأثر كاملاً، ولا يزال يسبب لها وجعاً يشوّش على رؤيتها للعالم.
لم تعد ترى صورتها فى عينى الولد، الذى عاد للتحديق فيها بعد أن تركها فترةً طويلة، نست خلالها الكثير من ملامحها، أحسّ أن ملامح وجهه لا تعبر عن أحاسيسه الباطنية، التى تصارعت كإعصار طفا على السطح فى صورة قيئ متقطع، جرّب النظر فى جميع المرايا التى صادفها فى طريقه، فكانت النتيجة واحدة.
لمح أثر ذلك التغيير على وجوه من فى البيت، فطمأنوه أنه أفضل حالاً من الأيام السابقة. فى اليوم التالى خرج القيئ الجميع: فى المولات الكبيرة، المطاعم، الشرفات، من قائدى السيارات، ونوافذ الحافلات العامة، ومن ضيف أحد البرامج على شاشة وضعت خلف فاترينة زجاجية. أصبحت الطرقات موحلة بالقىء، ولم تستطع البالوعات صرفه، فارتفعت لذلك أثمان الأكياس البلاستيكية. أغلقت المطارات والموانئ، وافترشت الطرقات شظايا المرايا، بما فيها الأسطح الرقيقة للمبات الإنارة التى رسمت ابتسامة كوميض النجوم.