فى موطأ الإمام مالك خبر عجيب عن رجلين عاشا فى عهد رسول الله وكانا متآخيين متصاحبين غير أن أحدهما كان أشد اجتهادا فى الطاعة والعبادة من الآخر، مات هذا المجتهد الطائع قبلَ صاحبِهِ بأربعينَ ليلةً فذُكِرَتْ فضيلةُ الأولِ مِنْهما عِندَ رسولِ اللهِ، فقال: ألمْ يكنِ الآخرُ مسلمًا؟ قالوا: بَلى وكان لا بأسَ بهِ، فقال رسولُ الله: ومايُدريكَ ما بَلغَتْ بهِ صلاتُهُ، إنَّما مثلُ الصلاةِ كمثلِ نهرٍ عذبٍ يَمرُّ ببابِ أحدِكمْ يَقتحمُ فيهِ كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ فما ترونَ ذلكَ يُبقِى مِنْ درنِهِ فإنَّكمْ لا تَدرونَ ما بلغَتْ بهِ صلاتُهُ. تأمل مرة أخرى قول الرسول: «وما يُدريكَ ما بَلغَتْ بهِ صلاتُه؟»، هذه العبارة تلخص كثيرا مما أريد قوله وتكفى لعلاج تلك الآفة التى استشرت مؤخرا فى مجتمعنا مغلفةً بلذة خفية تخدع كثيرًا ممن وقع فيها وتصرف بصره عن حقيقتها، إنها تلك اللذة التى تنتابك حين تعين نفسك حكمًا على غيرك وتقرر أن تطلق الأحكام على هذا وذاك.. نعم للأسف، هذه هى الحقيقة المؤسفة التى يرفض كثير منا الاعتراف بها.
تقييم الآخرين والحكم المستمر عليهم، له لذة خاصة بلا شك.. لذة العُلُو وتعاظم النفس، الآخرون دوما مخطئون ومقصرون بل فاسقون معتدون، النتيجة المباشرة والسريعة التى تتبادر للأذهان تتلخص فى جملة بسيطة: أنا- أعنى قائل هذا- لست مخطئا ولا مقصرا مثلهم وبالطبع لست فاسدا أو فاسقا.. أنا نموذج الصلاح وعنوان الهداية وعلامة التقوى وخزانة العلم ومفتاح الخير والبر.. حتى لو لم يصرح ناهش غيره للمستمع بهذه المعانى فيكفى أنه يشعره بها ويلقيها فى روعه من خلال تلك المتلازمات: هم عاصون، إذًا فأنا الطائع.. هم مبطلون، فأنا المحق.. هم ناقصون، فأنا المكتمل، شعور ممتع هو.. أليس كذلك؟!
المشكلة أنه مورث للإدمان، إدمان لهذا العلو القائم على رفات الآخرين الذين يشكل نقدهم الدائم والمستمر وقودًا لبقاء هذا الشعور الذى أدمنه صاحبه وصار تجارته الرائجة وصار من ملوك سوقه، والمشكلة الكبرى أنه كأى مدمن طبيعى سيستزيد ويستزيد وسيستكثر ويستمر فى تناول وقود علوه من خلال التربص بالآخرين ونهشهم الدائم حتى ينسى فى نهاية الأمر وجود مرآة تستحق أحيانا أن ينظر إليها ليُقيِّم أهم شخص ينبغى أن يقيِّمه ويحكم عليه.. نفسه! وفى خضم عواصف النقد والنقض التى صار يتقلب بين رياحها سينسى تماما مراجعة نفسه ونقدها ولو بين الحين والآخر، أيضا تتسرب إليه بالتدريج آفة أخرى فى منتهى الخطورة وهى التى يتعلق بها ذلك السؤال النبوى الذى صدرت به المقال، إنها آفة السطحية وضعف معايير التقييم سواء للنفس أو للغير.
تأمل مشهد تلك السيارة الفارهة ذات الطراز الفاخر وهى تقف فى إشارة مرورية مزدحمة فيسارع إلى نافذتها الداكنة ذلك المتسول بالى الثياب رث الهيئة أشعث الرأس يمد يده ليسأل ذلك الرجل الذى تبدو عليه آثار النعمة: صدقة لله، فيخرج الرجل الثرى يدا ناعمة تزينها ساعة ثمينة من ماركة عالمية شهيرة ليضع فى يد الفقير الخشنة ما جادت به نفسه، هذا المشهد فى تناقضه الحاد يعطى مثالا واضحا لمدى التفاضل الدنيوى بين الناس «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ».
ذلك التفاضل الشديد والفروقات الاجتماعية والمادية الهائلة التى نشهدها فى الدنيا لا تعد شيئا يذكر من تفضيل الآخرة والمسافات الشاسعة بين درجاتها، لذا تأتى الجملة القرآنية بعدها لترسخ تلك الحقيقة «وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا»، وهنالك تكون فوارق أيضا ودرجات مختلفة ومتباعدة لكن لا علاقة لها بفوارق الدنيا المادية، ولربما تفاضل نفس الشخصين المذكورين فى المثال فكان ما بينهما فى الآخرة أشد تفاوتًا، لكن التفاضل عندئذ لن يكون بالمال، وعلو الدرجات لن يكون بالثراء والمنصب والجاه، هنالك ليس ثمة تفاضل إلا بالعمل والتماس مرضاة الله، لكن أصحاب تلك الآفة التى أتحدث عنها لا يدركون هذا، بل يقتصر تقييمهم المسطح على ذلك المشهد الظاهر وتلك التفاضلات الملحوظة أو المحسوسة وينسون فى خضم أمواج النقد والنقض والتفضيل والتقييم أن يتوقفوا هنيهة ليسألوا أنفسهم ذلك السؤال النبوى الجامع: «وما يدريكم؟».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة