فى مشفى للصحة النفسية وسط مدينة شبه ريفية.. تحيط به الأسوار العالية من جميع الجهات.. وكأنها تخط خطاً فاصلا بين العقل والجنون ..
أدوارها الخمسة أو ربما السبعة.. لا أحد يستطيع أن يجزم.. عدد أدوراها و لا شكلها ..
يُقال إنها تتغير من آن لآن.. تتبدل من شكل لآخر ..
تسكن مخيلتك تتلاعب فى عصب أبصارك.. تُريك ما يربكك.. ما يخيفك وما جاهدت طوال عمرك فى إخفائه ..
لذلك لا أحد يطيل إليها النظر سوى فاقد عقل أو فاقد بصر ..
كأنها ضبابية.. لا يمكنك تقدير المسافة الحقيقية التى تفصلك عن عالمها ..
عالمها الآمن جدا.. كأنه ثكنة عسكرية.. فهم يخافون سكان المشفى كخوفهم من ظهور يأجوج و مأجوج
أسلاك شائكة و أقفال حديدية.. وغرف كاتمة للصوت.. و جدران لا يعرفها الضوء ..
وهدوء مريب يغريك لتضع قدمك داخل زنزانة.. تقضى فيها بقية حياتك آمنا بعيدا عن كيد البشر ..
فى أعلى الطوابق التى لم يستطع أن يجزم لى الراوى موضعها.. تقع غرفة أخصائى الصحة النفسية الدكتور فتحى إسماعيل.. بجسد نحيل ارتسمت عليه أوردة كفروع نهر النيل وعينين دقيقتين خلف نظارة سمكية تخفى معظم وجهه ..
شفتان غليظتان تخفيان عددا محدودا من الأسنان المتباعدة.. لتحكى قصة كفاح وسنوات من الإهمال خلف مكتب يحوى الكثير من الكتب و الأبحاث ..
لقد توقف مسماه الوظيفى عند مسمى أخصائى.. الذى دفع له ثمنا رهيباً من الجهد والألم.. ناهيك عن العمر و الأرق ..
وتلك الليالى القاسية التى تسبق امتحاناته التى لا تنتهى.. وعن الحزن الذى ينساب داخل أعماقه.. من تعنيف أساتذة الجامعة له ..
ليس لأنه لا يحمل واسطة تفتح له جميع الأبواب وتجعله يقفز من مرحلة الى مرحلة أخرى وحسب ..
ولكن أيضاً قناعاته الغريبة ونظرياته المثيرة للشك.. تجعلانك تقف مذهولا أمام عقل عبقرى وقدرات مرعبة.. تخيفك حتى من التفكير إذا كانت حقا حقيقية ..
سنوات العمر مضت يكافح لنيل مسمى.. برأييه أنه لم يكن يستحق كل هذا العناء ..
وها هى الواسطة غائبة مرة أخرى وقت احتياجه إليها.. لتضعه الأقدار فى مستشفى لا تصل إليه إلا أيدى الضعفاء مسلوبى الحق... حتى يتعرف صاحبنا على شاويش فى أحد المصالح الحكومية أو إلى عامل فى إحدى المديريات الصحية أو إلى أى أحد يقبل هدية ترقق قلبه فيتدخل لصالح المسكين لينتقل إلى أحد المستشفيات العظمى ليتدرب تحت أيدى نخبة من الأساتذة والاستشاريين العظام ..
لكن اللحظة المنتظرة لا تأتى.. لا أحد يتولى شئون جميع المرضى هناك سواه ..
لا أحد غيره يعرف تفاصيل المكان.. والأحداث التى تحدث والأحداث التى لم تحدث.
لا أحد يعرف حقيقة الشائعات سواه ..
كل الغرف يمكنك التجول داخلها.. كل الأماكن يمكنك الدخول إليها.. إلا غرفة واحدة.. لا يمكنك تخطى المحظور والدخول إليها وإلا ستصيبك لعنة ما أو تعويذة سحرية تفقدك التواصل بالعالم الخارجى لعدة أيام.. ثم تجد جثتك مرمية فى أحد الحقول الزراعية.. وبعد فحص الطب الشرعى.. فسبب الوفاة ناتج عن انفجار فى أوردة الجسم العظمى والصغرى ..
كبركان ثائر.. ثار من شدة الضغط.. أو ربما من شدة الرعب.. تماما كما حدث لعم جمعة.. المسكين.. الذى طاوع هواه و دخل الغرفة المحظورة ..
أو كعم جاد.. الذى لم يسمع خبرا عن الدكتور فتحى لعدة أيام.. فخشى عليه.. ودخل الغرفة على خشية رغبة فى أن يطمئن على الطبيب.. لكن لا أحد إلى الآن يمكنه أن يطمئننا على عم جاد الذى انصهر فى عالم الأطفال ..
كصاحب الثلاث سنوات أصبح عقله.. يفعل كما يفعل الأطفال .. يبلل سريره و ينادى زوجته بأمى ..
عليك أن تصرف نظرك إذا ما توجهت تلقاء هذه الغرفة.. عليك أن تعتبر ..
لكن لفضول النساء رأى آخر.. كم من أنثى تفضل الخلافات و المشاجرات على أن تبقى فى مخيلتها فضولا يتلاعب فى أوتار عقلها.. يعزف سمفونية الشك على كثير من بهارات الغيرة ليجعل الغالى يبدو رخيصا إذا ما قُورن بمعلومات.. لن يهدأ لها بال حتى تعرفها ..
إنها الدكتورة ماجدة خمسة وأربعون عاما من العمر.. قضت أكثرها فى مشاحنات وفض مجالس وإنهاء علاقات لن تستطيع يوما تعويضها ..
فتحت الباب المسجور.. لتقع عينيها على المفاجأة.. كتب كثيرة تنام مائلة على الرفوف.. وأخرى على الأرض وأوراق كثيرة متناثرة.. أغلقت الباب سريعاً.. ربما خوفاً من الأسطورة أن تصبح حقيقة ..
لا شىء مثير للريبة حتى هى لم تفاتح أحدا بشأن دخولها الغرفة.. ربما خوفاً من شىء لا تعلمه ..
وكما جرت العادة وجدت جثة الدكتورة ماجدة فى أحد الحقول الزراعية.. وليقل الطب الشرعى ما يشاء.. إنها حالة نادرة من تفجر الأوردة.. دفنت جثة الطبيبة من دون عينين.. ولا تكثر التساؤل عن مكانهما ..
إنها فى الدرج الأيمن من المكتب الرئيسى للغرفة المغلقة.. ليخلد ذكرى الطبيبة الراحلة..
د. فاطمة الزهراء الحسينى يكتب: "الغرفة المغلقة"
الأربعاء، 16 سبتمبر 2015 08:03 م
أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة