ستمطرُ هذا النهار رصاصاً..
ستمطرُ هذا النهار!
وفى شهر آذار، فى سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة: خمسُ بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت..
يسطعُ بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر. خمسُ بناتٍ على باب مدرسة ابتدائيّة ينكسرن مرايا مرايا
البناتُ مرايا البلاد على القلب..
فى شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
ان ا
هكذا كان "محمود درويش" وهكذا كانت قصائده ممتلئة بالوجع ومعبرة عن المعاناة واليوم فى ذكرى رحيله السابعة تظل قصائده خالدة ترثى الأطفال وكأنه لم يمت ، فمازال الأطفال يتساقطون كل يوم ومازالت المدافع تطلق قذائفها ونيرانها لتحرق كل ما يقابلها ، ومازلنا نقرأ قصائد درويش وكأنه كتبها اليوم معبرا عن الآلام ووجع الشعب الفلسطينى ويوما بعد يوم ننعى الأطفال، وكان آخر من بكيناهم الطفل "على دوابشة" الذى أحرقته نار الإسرائيليين منذ أيام ، كان آخرهم ولكنه ليس الأخير !.
ولم يكتب درويش عن الأطفال قصيدة واحدة فقط بل كانت كتابته عنهم جزءا من القضية الفلسطينية كلها، وتأتى قصيدة درويش "القتيل رقم 48" لتعبر عما يعانيه أطفال فلسطين و تعبر عن شاعر وكاتب فلسطينى عظيم عاش حياته ليدافع عن قضية وطنه الأسير وتقول القصيدة :
وجدوا فى صدره قنديل ورد.. و قمر
وهو ملقى، ميتا، فوق حجّر
وجدوا فى جيبه بعض قروش
وجدوا علبة كبريت،و تصريح سفرّ..
و على ساعده الغض نقوش.
قبلته أمّه..
و بكت عاما عليه
بعد عام، نبت العوسج ىفى عينيه
و اشتدّ الظلام
عندما شبّ أخوه
و مضى يبحث عن شغل بأسواق المدينة
حبسوه..
لم يكن تصريح سفر
إنه يحمل فى الشارع صندوق عفونه
و صناديق أخر
آه: أطفال بلادى
هكذا مات القمر!
ولم تقتصر قصائد درويش على الأطفال فقط ولكن القضية الفلسطينية ككل حيث يعد أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن، فالدماء تسيل كل يوم بلا توقف وعبر درويش عن ذلك فى قصيدته " البنتُ / الصرخة" فيقول :
على شاطئ البحر بنت، وللبنت أهل وللأهل بيت.
وللبيت نافذتان وباب....
وفى البحر بارجة تتسلى
بصيد المشاة على شاطئ البحر:
أربعة، خمسة، سبعة
يسقطون على الرمل، والبنت تنجو قليلا
لأن يدا من ضباب
يدا ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي
يا أبي! قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يجبها أبوها المسجى على ظله
فى مهب الغياب
دم فى النخيل، دم فى السحاب
يطير بها الصوت أعلى وأبعد من
شاطئ البحر. تصرخ فى ليل برية،
لا صدى للصدى.
فتصير هى الصرخة الأبدية فى خبر
عاجل، لم يعد خبرا عاجلا
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتا بنافذتين وباب!
الشعر عند محمود درويش كان أكثر من كونه لغة جميلة وصورة معبرة فهو وسيلة ليعبر عما يعيشه شعب كل يوم من خوف ودمار فيقول فى قصيدته "حالة حصار" ِ المُشاة على شاطئ البحر:
خسائرُنا: من شهيدين حتى ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ
وعَشْرَةُ جرحي.
وعشرون بيتاً.
وخمسون زيتونةً...
بالإضافة للخَلَل البُنْيوى الذي
سيصيب القصيدةَ والمسرحيَّةَ واللوحة الناقصة
وبعد رحلة إبداع و كفاح استمرت 67 عاما توفى محمود درويش فى التاسع من أغسطس لعام 2008 بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح فى مركز تكساس الطبى بالولايات المتحدة الأمريكية التى دخل بعدها فى غيبوبة أدت إلى وفاته بعد أن قرر الأطباء نزع أجهزة الإنعاش بناءً على توصيته، وتم نقل جثمانه إلى رام الله وظل هناك حتى الان .
القصيدة الأخيرة
"من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما"، هكذا تنبأ الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، الذى يوافق اليوم الذكرى السابعة لرحيله، فى قصيدته "قال المسافر للمسافر: لن أعود كما"، بأنه سيبقى حيا ما حيت كلماته يقرأها الجميع بعد رحيله، فيوهبون له حياة تلو الأخرى.
"من أنا لأخيب ظن العدم"، هكذا تساءل درويش الشعر فى قصيدته الأخيرة، "لاعب النرد" التى حملت لمريديه خلاصة تجربة اتسعت فيها رؤاه وعباراته، على عكس ما قال الصوفى النفرى "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".
"لاعب النرد" كانت قصيدته الأخيرة وربما الأولى، فهى القصيدة "السيرة" التى بث فيها محمود دوريش من روحه فاستحالت نصا "مبرئا من كل عيب"، بدأه بإعلان سلامته مما قد يصيب شاعرا مثله من تكبر على قرائه، فخاطبهم متسائلا:"من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟" ليفاجئهم مرة أخرى ببيت يقول "أنا مثلكم أو أقل قليلا" تدهشك العبارة فتظن إنه تجرد لتوه من كل ما أثقل قلبه وذاكرته، ليعد إلى يوم مر إلى الحياة للمرة الأولى "مثلنا أو أقل قليلا" وربما هكذا أراد أن يرحل عنها أيضا.
"لاعب النرد" هى القصيدة التى اتحد فيها محمود درويش مع ذاته وتجرد منها فى آن واحد، يخبرك فيها بمن كان وكيف أصبح، ثم يعترف بأن كل ما كانه "مصادفة" وكل حال أصبح عليه كان "مصادفة" كذلك، و"مصادفة" عشقناه كيفما كان وكيفما أصبح، وإن لم يكن له دورا بما "كان أو سيكون".
وحين يأخذ محمود دوريش بيديك بين حروف قصيدته إلى بيته القائل "لا دور لى فى حياتى إلا إننى عندما علمتنى تراتيلها، قلت هل من مزيد وأوقدت قنديلها ثم حاولت تعديلها؟"، فتجيبه "لا دور لى فى قراءاتى إلا إننى عندما علمتنى شعرك قلت لك:هل من مزيد؟ فوجدته فيه كل نص وتعديله، كل صورة وانعكاسها، كل حرف ورسمه وكل كلمة وصدى امتدادها.
تسكنك القصيدة فتصير جزءا منها، ولا يفصلك عن اتحادك بها سوى بيته "كان يمكن ألا يحالفنى الوحى" فتضحك ساخرا وكيف لا يحالفك الوحى وأنت الوحى الذى لا ينقطع، وبينما يقول هو "إن القصيدة رمية نرد على رقعة من ظلام تشع وقد لا تشع فيهوى الكلام"، تجيبه بملء قلبك "تشع" ولا وجود "لقد"، كف عنى أذاك.
يتمكن منك شعور لا يوصف بـ"الامتلاء" بذلك القائل "لا دور لى فى القصيدة غير امتثالى لإيقاعها"، فتمثل أمام حروفه خاضعا، حامدا شاكرا كل "امتثال" له، وعندما يقدم لك "تعويذته" السحرية فى قوله "هكذا تولد الكلمات أدرب قلبى على الحب كى يسع الورد والشوك"، تؤمن على كلماته قائلا: "وها أنا ذا أدرب عينى أولا"، فينقلك من خضوعك أمامه كمريد يتلقى أولى حروف أبجديته من درويشه إلى اعتراف بأنك "قد بلغت الكبر" وقد وسدتك حروفه منذ بدء القصيدة، فيكمل جميله عليك ويقول "ولست أنا من أنا الآن إلا إذا التقت الاثنتان أنا وأنا الأنثوية"، فأبلغ كمالى وأقول بكل ما أوتيت من قوة على احتمال بلاغته "وأنا الأنثوية".
ومحمود درويش هو شاعرٌ فلسطينى وعضو المجلس الوطنى التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وله دواوين شعرية مليئة بالمضامين الحداثية. ولد عام 1941 فى قرية البروة وهى قرية فلسطينية تقع فى الجليل قرب ساحل عكا، حيث كانت أسرته تملك أرضًا هناك، خرجت الأسرة برفقة اللاجئين الفلسطينيين فى العام 1948 إلى لبنان، ثم عادت متسللة عام 1949 بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، لتجد القرية مهدمة وقد أقيم على أراضيها موشاف (قرية زراعية إسرائيلية)"أحيهود"، وكيبوتس يسعور فعاش مع عائلته فى قرية الجديدة.
بعد إنهائه تعليمه الثانوى فى مدرسة ينى الثانوية فى كفرياسيف انتسب إلى الحزب الشيوعى الإسرائيلى وعمل فى صحافة الحزب مثل الإتحاد والجديد التى أصبح فى ما بعد مشرفًا على تحريرها، كما اشترك فى تحرير جريدة الفجر التى كان يصدرها مبام.
اُعتُقِل محمود درويش من قبل السلطات الإسرائيلية مرارًا بدأ من العام 1961 بتهم تتعلق بتصريحاته ونشاطه السياسى وذلك حتى عام 1972 حيث توجه إلى للاتحاد السوفييتى للدراسة، وانتقل بعدها لاجئًا إلى القاهرة فى ذات العام حيث التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم لبنان حيث عمل فى مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، علمًا إنه استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إحتجاجًا على اتفاقية أوسلو. كما أسس مجلة الكرمل الثقافية.
وتوفى محمود درويش فى 9أغسطس 2008، وقد شارك فى جنازته آلاف من أبناء الشعب الفلسطينى وقد حضر أيضا أهله من أراضى 48 وشخصيات أخرى على رأسهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. تم نقل جثمان الشاعر محمود درويش إلى رام الله.
موضوعات متعلقة..
- الشاعرة علية عبد السلام فى ذكرى رحيل محمود درويش: كان نصابا كبيرا
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة