"أشلاءُ وعيٍ.. لا تجد أنصافَها" نص لـ"كريم الصياد" من ديوان "آلهة الغسق"

الإثنين، 03 أغسطس 2015 08:00 م
"أشلاءُ وعيٍ.. لا تجد أنصافَها" نص لـ"كريم الصياد" من ديوان "آلهة الغسق" الشاعر كريم الصياد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الوطن لم يعد بيتًا. أنا كائن وحيد الخلية. أسوأ أنواع الغربة أن يحتاج الآخرون إلى ميكروسكوب كى يروك. أنا أصغر من الوطن بكثير، وبلا كثير. لم أعرفه إلا حين رحلتُ. وحين عرفتُ لم أجد فيه أصدقائى. المكان بلا صديق لغة غير مقروءة. والوطن بلا أصدقاء جدران تردد الصرخات وأحلام خالية.

لم يكن لى جسد إلا فى الثورة. كان جسدى الميدان. كانت الأرض التى روتها دماء أصدقائى وطنًا. إن هذه الأرض وطنى. الوطن حيث تسيل دماء الأصدقاء. لا يضيق الوطن إلا حين تجف. أولئك ينزفون لأجل الذين يغتربون. من ذا الذى ينزف من أجلى فأنزف لروحه أضعافًا مضاعفة؟ أرأيتَ أن قطرة دمٍ منكَ تذكرة عودتي؟ أرأيتَ أن دمكَ جنسيتي، وأن انسكابه أرضًا أو فورته فى السماء رايتي؟ بل أنتم تكنزون الدماء وتظنون أنكم اتخذتم وطنًا. أحسبتم أن الوطن هو حيث يُحقَن الدم وتجف العروق؟ أم حسبتم أن الدم مَدار فى الجسد وأن القلب فؤاد؟ الميدان فؤاد الدم الذى يتداوله الأصدقاء. الميدان قلبٌ ملقًى فى تقاطع الطرق وقاع عوادم السيارات. قلبى على مدخل (طلعت حرب) و(التحرير) و(قصر العيني) و(محمد محمود). لا أجمل من خطر نلاقيه وأيدينا فى أيدى الأصدقاء. من ذاق الثورة مات: بالرصاص أو بتوقف الفؤاد. يمجِّد له مَن فى الميادين ومن فى القلب، وهو الوحيد الشهيد.
* * *
صديقى يحادثنى من القاهرة، وبخار المنوّم عنيدٌ فى جماجمى الطافية فى مدار حول مخي، كل منهن تريد اقتناصه، لكنهن يفشلن جميعًا. وأنا أحدق فى المسافات، التى تتخارج كل منها من الأخرى كالتلسكوب الشفيف. وصديقى يبعد بلا مكان، وأنا أطفو على سطح المنوم تارة، وتارة أغوص فأحلم.
ويبقى مخى بلا جماجم.
أقول كلامًا لا أفهمه: أن مصر ليست بدعة تاريخية، وأن ألمانيا بها إضرابات عمالية، وأن المنظور هو الحقيقة، وأن الواقع فى الدماغ. وصديقى يسألنى عن معنى هذا كله، وكى أجيبه أحاول مد جماجمى فى كل اتجاه لاقتناص مخي، ولا مخ ولا مخيخ. أترنح فى الخيال، حتى فى الخيال.

(تطبيق ماذا) WhatsApp نافذة مفتوحة على مكتبي، يطل منها وجه صديقى بلا ملامح، وأجواء القاهرة بلا مدينة، لا أغلقها حتى حين يصمت. فى المستقبل سوف يخترعون (تطبيق أين)، الذى سيمكننى من العبور بين مكانين، و(تطبيق متى)، الذى سأزور منه معالم ذكرياتى وأصدقاء طفولتي، و(تطبيق هل)، الذى سيخبرنى بالحقيقة، و(تطبيق حَتَّامَ)، الذى سيرينى نهاية كل شيء.

انسحبَ بخار المنوم فجأة أمام جبروت مضاد الاكتئاب المتجهِّم. ومددتُ يدي، فوجدتُ جمجمةً على عنقي، ملطّخةً بالدماء والأنسجة، وفى الهواء يتأرجح نصف مخ دامٍ، أشلاءَ وعيٍ.. لا تجد أنصافَها.
* * *
الأرض حولى تستدير فى كل الجهات، وتتحول كوكبًا بعيدًا بلا شمس. الضباب حولى أذرع ومَمَسّات وأمعاء ملتفة، ويهطل المطر أخيرًا حامضًا، فتسيل الأرض وحلاً، وتنبت منها شعاب سوداء. ويظهر الطريق ويتبدد، لا أملك منه سوى ذكرى بلا ضوء. وأسير بلا نهاية. والكوكب يدور فى الفراغ المنقعر، وأنا أسرِع قبل انثقابه. يتحرك فى جِلدى ما أدمنته من قشعريرة. والعالَم.. أعراض انسحاب.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة