محمد غنيم يكتب: التاريخ الحاضر فى رواية "الأزبكية"

الأربعاء، 19 أغسطس 2015 01:00 ص
محمد غنيم يكتب: التاريخ الحاضر فى رواية "الأزبكية" غلاف الرواية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تعد رواية الأزبكية لناصر عراق سردا توثيقيا فنيا للأحداث التى مرت بها مصر منذ أن وطأت أقدام الجنود الفرنسيين القاهرة، ونصبوا خيامهم عند الأزبكية فى 24 من شهر يوليو عام 1798م حتى بعد تولى محمد على الحكم بستة أشهر عام 1805، وقد استلهم المؤلف من تاريخ مصر فترة حكم نابليون حتى محمد على ليدرك القارئ بالحاضر، فالفترة التى تدور فى فلكها أحداث الرواية حُكمت فيها مصر من قبل ستة حكام، وهذه فترة كافية لفهم الأحداث التاريخية الموثقة، إضافة إلى التراكيب الخيالية والشخوص التى مزجها المؤلف بالواقع التاريخى لفهم الحاضر، خاصة أن هناك درجة تشابه بين ما حدث لحظة خروج الجنود الفرنسيين من أرض مصر، وما حدث بين ثورتى 25 يناير و30 يونيو، ففترة التشابه تلهمنا فهم الحاضر واستشراف المستقبل.

رواية "الأزبكية" صدرت عن الدار المصرية اللبنانية فى شكل بديع وغلاف منمق يشى بالفترة الزمنية التى تشهدها الأحداث مزدان بشكل توضيحى لحديقة الأزبكية إضافة إلى صورة نابليون بالزى العسكرى.

وتتعاقب الأحداث وتتزاحم الشخوص فتتلاحم فيما بينها حتى تذوب التفاصيل بين أبطال الرواية مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم، فمنهم "أيوب السبع" أهم أبطال الرواية سطوعًا، شاب مصرى تعلم على يد المشايخ فى الأزهر الشريف يعمل نساخًا للكتب ورث المهنة عن أبيه، يليه "شارل" فنان فرنسى شارك فى الثورة الفرنسية واختار بمحض إرادته أن يعيش ويتعايش فى مصر، وتمتزج بنسيج المصريين وذلك قبل مجيء الحملة الفرنسية، فكان غير راضٍ عن فكر الحملة وضد ثقافة الاحتلال، إما "مواريه" ذلك الضابط الفرنسى الذى كره المصريين من جهلهم وانسياقهم خلف عواطفهم ومعتقداتهم الدينية البالية.

أما بالنسبة للعنصر النسائى فى الرواية فنجد المؤلف أضاء سماء العمل بنجوم ساطعة مثل "مسعدة حجاب" وكأنها نواة أساسية لاستمرار نسل الفرنسيين واختلاط أجناسهم بالمصريين. وأيضًا "زليمة الجميلة" المرأة الجورجية الجنسية التى أحبت الضابط "مواريه" وكذلك الأميرة المملوكية أشرف هانم التى عشقت شابًا فقيرًا هو "شلضم" السقا.

تتوطد الصداقة بين "أيوب" و"شارل" الذى أحب "مسعدة حجاب" وأنجب منها الابن المصرى المسلم "محمد شارل فلوبير" وقصة الحب التى لم تكتمل بين الضابط "مواريه" و"زليمة" الجورجية واللقاءات الساخنة بين "أشرف هانم" زوجة إيواظ بك أحد أمراء المماليك و"شلضم" السقا فالأحداث الشيقة للرواية تجعلك تغوص فى دهاليزها وتتسلق شعابها.

وإذا ما تأملنا هذه الرواية سنجد أن المؤلف استخدم طريقة "الفلاش باك" والتقديم والتأخير لجعل القارئ أكثر تشوقًا وشغفًا لالتهام الأحداث، فى اقتناص المؤلف للشخوص المتخيلة نجده صور عبد الرحمن الجبرتى كأنه يراه، وهذا من وحى خياله نظراً لأن لم يوجد كتاب أو مرجع حتى الآن يصف عبد الرحمن الجبرتى كما وصفه لنا ناصر عراق، فصوره فى بورتريه يجسد شخصيته، متأثرًا بالحقبة الزمنية والظروف المادية والاجتماعية التى عايشها، فنجد شكله فى الصورة المرسومة بين السطور أسمر البشرة قصير القامة ممتلئ الجسم، طويل اللحية ميسور الحال، وإن امتلك أطيانًا وعقارات ودارًا فسيحة فى بولاق فهذه هى الحقيقة الواحدة فى شخصيته التى رسمها لنا عراق.

أما بالنسبة للحركة فى السرد نجده مكثفًا وكأنك تشاهد المواقف عبر شاشة تليفزيون، جيدة الإيقاع سريعة رد الفعل، فمثلاً أحداث اقتحام الفرنسيين جامع الأزهر فى أكتوبر عام 1798، واشتباك المصريين معهم أمام ساحة الحسين ومقتل الجنرال "ديبوى"، الذى لم تذكر وثيقة رسمية حتى الآن من الذى قتله، ولكن ناصر عراق ابتكر لنا شخصية "خليل المنوفى" الشاب المصرى الباسل الذى خلص المصريين من بطش الجنرال الفرنسى. فى هذا المشهد تقرأه وكأنك تسمع موسيقى تصويرية لصوت السلاح وارتطام أجساد الموتى على الأرض وتدفق الدماء بلونها الأحمر القانى. وبعد أن انتقلنا من الموسيقى التصويرية والمشاهد السينمائية تجد تأثر المؤلف بدراسته وولعه وعشقه بالرسم والألوان، فتجد اللوحات الزيتية التى يرسمها الخواجة شارل للمصريين وكأنها لوحات سردية لواقع المجتمع المصرى، فمثلاً رسم صورة لطفلين يتسولان بجوار أمهما العمياء، كما جسد أيضًا بطش الجنود الفرنسيين وهم يقتحمون جامع الأزهر بخيولهم، فى لوحة رائعة أبهرت "دينون" الفنان الفرنسى الذى أتى مع الحملة إضافة على أن "دينون" هو أول رسام فى العالم يرسم معبد الكرنك.، يصف المؤلف الحياة فى هذه الحقبة من ملابس مثل "العمة والسروال" وأوانٍ فخارية فيستخدم كلمة "القدح" وكذلك وعاء الطعام نجده يستخدم لفظ "المشنة".

أما بالنسبة للحكام الذين حكموا البلاد فى هذه الفترة فتجد عراق يطوف بنا حول "كليبر" و"ديبويه" و"نابليون" و"محمد على" وإذا كان تسليط الضوء على نابليون أكثر سطوعًا، فهو دليل على أن فترة حكمة كانت أكثر إشراقًا وفضل على المصريين، رغم الاحتلال التى شهدته البلاد، فالراوية لا تقتصر أحداثها على الحكم والسلطة والاحتلال فحسب بل كان للجانب الرومانسى والهيام بين الحب والعشق نصيب لأبطال الرواية فمثلا "أيوب السبع" عشق "فرانسوا" الفتاة الفرنسية أخت الخواجة "شارل" وأحب "حسنات" حيث لقاءات الغرام فى غياهب الخرابة تلبية لنداءات الجسد المتعطش للجنس وأيضًا حبة لـ"سعدية" زوجته التى أحبته حتى آخر لحظة وهى تحمل ابنه بين أحشائها وكذلك حب الخواجة "شارل" لمعشوقته "روز" التى ماتت برصاص الغدر فى الثورة الفرنسية، ظل يعشقها ولا تفارق خياله لحظة، بل كان يناجى صورتها كل ليلية رغم حبه لـ"مسعدة حجاب" وإنجابه منها محمد، نجد هنا دهاء ناصر عراق فى اختيار اسم المولود، محمد دليل على كونه مسلم الديانة أما الأب "شارل" فهو الاسم الشائع عند الفرنسيين وكذلك اسم الجد "فلوبير" أشهر الأسماء المسيحية، هنا نجد المؤلف صنع لنا مزيجا دينيًا عرقيًا رائعًا وكأنه بداية طريق لانتشار دماء وملامح الفرنسيين داخل المجتمع المصرى، أما الحس الوطنى للشخصية المصرية فى الرواية فتجده متوافرًا بشدة فى التنظيم السرى الذى كونه أيوب السبع وأصدقاؤه فى القضاء على جنود الحملة الفرنسية، حتى أخرجوهم من البلد بعد أن قتلوا منهم العديد.

ختام الرواية يسجل لحظات خروج الحملة الفرنسية وكتابة شهادة ميلاد اندماج الابن الهجين محمد شارل فلوبير داخل المجتمع المصرى، وتولى محمد على حكم مصر، فإن الرواية قد فتحت أفاقًا نقديًا واسعًا لأسئلة الهوية والتعبير عن طموح جيل فى مراجعة التقاليد البالية ومحاربة الجهل والمرض المتفشى داخل أعضاء المجتمع المصرى ومحاربة الظلم والاستبداد، وأحسب أن قوة الرواية تكمن فى إقناعنا بأحداثها ومصدقيتها ونبل منظورها للحياة، فهى رواية شاقة مثيرة مصاغة بلغة رشيقة وجميلة.. رواية تنزعك من واقع الحياة اليومية لتقذف بك فى بحر التاريخ فتكتشف أنك لم تبتعد كثيرا عن واقعك فالقضايا والمشكلات التى كابها أجدادنا وعجزوا عن حلها مازالت تمسك بخناق أجيال هذا الزمن.


موضوعات متعلقة..


ناصر عراق يستدعى التاريخ فى "الأزبكية" عن "المصرية اللبنانية





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة