
لا شىء تغير عن العام الماضى، قال الإخوان فى الذكرى الثانية لفض اعتصام رابعة ما قالوه فى الذكرى الأولى، وأنكر المنكرون ماأنكروه العام الماضى، ولم تخلف الدولة عادتها بتقديم نفس الأداء الذى سبق أن أظهرته قبل 12 شهرًا من الآن.
الكل يقف فى المربع الخاص به، ولا أمل فى مشاهدة أداء أفضل للتعامل مع حدث مهم، لأن صراعهم ليس على حق الضحايا بقدر ما هو صراع على استغلال أرواحهم.
ليست مجرد قصة..
فى الكتب الشعبية القديمة حكاية تقول بأن رجلا كان يعيش فى قرية صغيرة ويربى دجاجا، وبين الحين والآخر يكتشف أنه تعرض لسرقة دجاجة أو اثنتين، ذهب الرجل إلى شيخ المسجد واشتكى له قائلا: «أهل القرية عددهم قليل أعرفهم جميعا ولا أستطيع أن أتهم فلانا أو فلانا»، رد الشيخ: «لا تقلق عندى طريقة لكشف السارق».
فى اليوم التالى اجتمع الناس للصلاة وبدأ الشيخ يتحدث عن الأمانة وجزاء السارق ثم ختم حديثه قائلا: «وتخيلوا من وقاحة السارق أنه يكون جالسا بيننا وقد نسى إزالة الريش عن رأسه، فقام الفاعل مباشرة بمسح رأسه»، انتهت القصة ولكن لم ينته مغزاها.
المواطن المصرى عبقرى، سمع الحدوتة السابقة وهضمها، وأعاد تقديمها للعالم مرة أخرى فى صورة حكمة شعبية تقول: «اللى على راسه بطحة يحسس عليها»، لتصبح مثلا عميق المعنى نستخدمه كلما أردنا أن نصف صاحب الفعل حينما يرتبك ويكشف نفسه بنفسه إذا مر أحدهم على ذكر فعلته القبيحة مرور الكرام.
المثل مصرى، ويستخدمه المصريون فى اليوم الواحد آلاف المرات، ومع ذلك لم تستوعبه الدولة وقامت فى الذكرى الأولى لفض اعتصام رابعة بمنع دخول وفد منظمة هيومان رايتس ووتش إلى مصر من أجل عرض تقرير المنظمة الحقوقية عن أحداث فض رابعة، ثم أعادت تكرار نفس المشهد فى الذكرى الثانية لفض رابعة والنهضة مع تعديلات طفيفة تمثلت فى بيان شديد اللهجة من وزارة الخارجية ترفض فيه تقارير المنظمات الدولية وتصف تقرير هيومان رايتس ووتش بأنه مسيّس وغير موضوعى وصدر عن جهة لا صفة لها، وربما يكون لهذه الكلمات نصيب من الصحة، وربما تكون حقيقة مطلقة، ولكن هل هذه الطريقة المثلى للتعامل مع أزمة رابعة وتقارير الخارج الأوروبى الملونة والصادرة بناء على تعليمات طرف واحد هو الإخوان المسلمين؟!
الإجابة ستكون نفيًا بلا شك، وستبقى الأمور كلها سيئة الذكر، طالما استسهلت وزارة الخارجية المصرية التعامل مع ملف الصحافة والمنظمات الأجنبية المنقوعة عقولها فى أكاذيب الإخوان بطريقة النكران والاستنكار وتعبيرات مهاوييس الإعلام المصرى التى لا تخرج عن وصلات ردح الاتهام بالخيانة والعمالة والمؤامرة.. نحتاج إلى طريقة أكثر عملية، وبراجماتية وأكثر قدرة على إخراس أفواه الغرب المفتوحة لاصطيادنا.
تصرفت الدولة مثل اللص الذى ارتبك بمجرد أن ذكر له الشيخ أن ريش الدجاج فوق رأس السارق، فقرر أن يتطوع ويمسح من على رأسه ليخبر الجميع أنه السارق، منعت الحكومة الوفد من دخول مصر فى عام وأصدرت بيانا هجوميا فى العام التالى، وكأن هذا الوطن على رأسه بطحة يخشى أن يكشفها تقرير حقوقى يستطيع أصغر عضو فى الحكومة أن يناقشه ويعيد تفنيده والرد عليه.. ولكن أحدا فى الدولة لم يفعل ورفعوا شعار: «الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح»، ولم يدرك أحد أن باب الريح هذا أصبح أربعة أبواب تمرر ريحا عاتية ضد الدولة المصرية من بيروت وجنيف ونيويورك البلدان الثلاثة التى تلعب «هيومان رايتس ووتش» من قلبها، بالإضافة إلى الباب الرابع الذى نسمع منه الآن صوت رياح الإعلام الغربى وهى تقول إن مصر تخشى من تقرير يفضحها.
«العيار اللى ميصبش يدوش»، ومع ذلك تطوعنا نحن فى مصر بإطلاقه وكأننا نملك وقت فراغ للدخول فى معارك من هذا النوع مع الإعلام الغربى والمنظمات الدولية، حولنا تقريرا يمكن هدمه والتشكيك فى معلوماته بالأدلة والحوار إلى عيار طائش لن يصيب مصر ولن يضرها، ولكنه سيخلق حولها «دوشة» لسنا فى حاجة إليها الآن.
المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم الخارجية فعل كما فعل اللواء أبوبكر عبدالكريم، مساعد وزير الداخلية، فى العام الماضى، وكأن أحدا لا يتعلم فى هذا الوطن، واختار الأسلوب القديم وهاجم تقرير «هيومان رايتس ووتش»، وقال بأنه مسيس ويفتقد للمهنية ومصادره غير معلومة وغير رسمية، وكل هذا اليقين الكامن فى تصريحات مسؤول الخارجية ومن قبله مسؤول الداخلية ربما يكون صحيحا، وربما يكون واقعا، ولكنه بكل تأكيد لن يكون مؤثرا فى عالم لا يتأثر أبدا بالأحكام الاستباقية، ولا تخرسه سوى طريقة رد الحجة بالحجة والمعلومة بالمعلومة.
كان على السادة فى وزارة الخارجية أن يحملوا بين كفوفهم مجموعة من الأوراق والأدلة التى ترد على تقرير «هيومان رايتس ووتش»، وأن يثبتوا بالصور والفيديوهات التى تمتلك منها الدولة الكثير أن اعتصام رابعة كان مسلحا، وليس سلميا كما قال التقرير، كان عليه أن يأتى بالفيديو الخاص بالممرات الآمنة التى صنعتها الداخلية لخروج المتظاهرين من الاعتصام ويضعه فى عين وفد المنظمة الحقوقية الدولية ويكذب ما ورد فى تقريرهم بشأن عدم وجود ممر آمن لخروج المتظاهرين.
أدلة فساد وجهة نظر منظمة هيومن رايتس ووتش موجودة بين سطور تقريرهم عن فض رابعة، ولكن المسؤولين فى مصر استسهلوا اللجوء للعادة القديمة ومهاجمة التقرير واتهامه بأنه مؤامرة على مصر ويريد إسقاطها والنيل منها، رغم أن أحدهم كان قادرا على أن يسأل عن طبيعة الـ200 شخص الذين حصلت المنظمة على شهاداتهم وإن كانوا «إخوان» أو لديهم ميول سياسية أم لا؟ وكان قادرا على أن يأتى إليهم بآلاف الشهادات الأخرى من مواطنين مصريين طبيعيين وبصور دخول الأسلحة إلى رابعة وفيديوهات تعذيب الضباط والجنود المختطفين لينسف التقرير تماما.
كان على أحد فى الدولة المصرية أن يدرك أن الإخوان ينتظرون تقارير وبيانات «هيومان رايتس ووتش» كثيرا لكى يستخدموها فى تسويق ما حدث فى رابعة وكأنه قصة اضطهاد، ولكن أحدا من الدولة لم يدرك أو يستوعب أهمية ما وصل إليه التقرير فيما يخص عدد الضحايا الذين قدرهم بحوالى 1100، وهو الرقم الذى يدمر أسطورة الإخوان تماما ويحرم الجماعة من تسويق فض رابعة على أنه فيلم لأكبر مذابح القمع والاضطهاد، بل سيكون التقرير دليلا على مبالغات الإخوان وأكاذيبهم فى أرقام الضحايا الذين يقولون إنهم بلغوا 6 آلاف أو 8 آلاف.
القصة هنا لم تعد بيان أو تقرير «هيومان رايتس ووتش» المنحاز لوجهة نظر الإخوان، القصة هنا تعبر عن واقع مضطرب يغرق فيه عدد من المسؤولين، تخيلوا أنهم باستخدام طريقة أحمد موسى وتوفيق عكاشة القائمة على التخوين والحديث عن العملاء والأجندات قد كسبوا المعركة، ودفنوا بيان المنظمة الدولية بمجرد وصفهم بأنه «مسيّس»، بينما على أرض الواقع ينشر البيان وكل تقارير المنظمات الدولية فى الصحف الأجنبية وتناقشه دول العالم، ولكنه نقاش تحت مظلة البيانات التى تخشاها السلطة فى مصر وليس نقاشا تحت مظلة كونه مجرد بيان أو تقرير حقوقى كان يمكن الرد عليه والحد من تأثيره بإظهار تناقضاته وتناقضات جهة إصداره، التى لم تجرؤ يوما على وصف ما تفعله إسرائيل فى غزة بالمجزرة أو المذبحة.
ارحموا مصر من صندوق حلول الأزمات القديم، فلا الطبلة تجدى نفعا، ولا قصائد التخوين والأجندات تصلح لإقناع الجالسين على مقاعد المنظمات والصحف الأجنبية، واجهوا الإخوان بالورقة والقلم، افضحوا للعالم اعترافات قيادات الجماعة بأنهم مدوا فى عمر الاعتصام ودفعوا شبابهم للاقتتال من أجل تفاوض أفضل، ردوا أسلحتهم إلى صدروهم، وكفى كسلا وارتكانا إلى المنهج العكاشى القائم على الردح والتهليل.
