جاءنا خبر وفاة أحد الزملاء ونحن نستعد لمغادرة مكاتبنا فى نهاية يوم عمل بمنتصف الأسبوع.. كان زميلنا المرحوم قد أصابه مرضا شديدا منذ عدة أسابيع دخل على إثره المستشفى لإجراء جراحة عاجلة، غير أن صحته تدهورت سريعا حتى وافته المنية فى هذا اليوم .
أصابتنا صدمة الفراق بلوعة وشىء من الحزن أفقنا منه سريعا، وسرعان ما أخذنا فى التشاور معا نحن زملاؤه الذين قضينا معه عمرا طويلا يجمعنا مكان واحد وعمل واحد وذكريات وأحزان وأفراح.. اجتمعنا سويا لنتفق على موعد اللقاء لتقديم واجب العزاء فى هذا الزميل العزيز .
هالنى أن لاحظت بعض التخاذل فى عيون بعض الزملاء.. وبدا البعض يُلمح أن زميلنا الذى نعرفه قد فارق الحياة.. ولا نعرف أحدا من عائلته أو تربطنا بهم صداقة أو رابط.. وقالوا فيما معناه لمن إذا نقدم واجب العزاء وما الفائدة من تكبد عناء الذهاب وتعطيل مصالحنا دون فائدة تذكر أو أحد يقدر جهدنا.
بدأت تسرى بعض الهمهمة بين الزملاء بعضهم وافق الرأى السابق والبعض الآخر رفضه على استحياء ورأى ضرورة القيام بواجب العزاء تقديرا واحتراما للمرحوم والعشرة الطويلة التى جمعتنا به .
حاولت حسم الأمر قبل أن يتغلب الرأى الأول ووجهت حديثى لجميع الزملاء بضرورة اللقاء بعد صلاة المغرب فى السرادق المقام أمام بيته الذى طالما زرناه فى حياته هناك وترددنا عليه كثيرا فى مناسبات شتى.. ولكن ما أثار دهشتى حالة اللامبالاة وعدم الاستجابة لدعوتى.. فقد أدار البعض ظهره مبتعدا عن المكان.. وأبدى البعض الآخر انشغاله ببعض الأمور.. وتعللوا بضرورة الإسراع للتوقيع بدفتر الانصراف قبل أن يغلق مكتب الشئون الإدارية.
غادرنا جميعا العمل وذهب كل منا إلى بيته ووجهته ولم نتفق على شىء.. ولكن يبدو أنه قد استقر فى يقينهم عدم الحضور وتأدية هذا الواجب الاجتماعى.
أديت صلاة المغرب فى المسجد المجاور لمنزل المرحوم وذهبت لسرادق العزاء وكنت أول الحضور.. ولم أر أحدا من الزملاء بين الجلوس.. توجست خيفة أن لا يأتوا، جلست انتظر حضورهم وأبحث بعينى عن أى منهم كل بضع دقائق بين الحضور والقادمين الجدد.. وقبل أن يختتم المقرئ جزءا من القرآن بِعدة دقائق وجدتهم قادمين جميعا معا، فتنفست الصعداء.
جلس بعضهم بجانبى.. والبعض الآخر جاءت جلسته أمامى.. تبادلنا التحية بنظرات العين.. وجلسنا فى صمت نستمع إلى تكملة التلاوة .
بعد دقائق قليلة لمحت فى عيونهم القلق.. وأخذ البعض منهم ينظر فى ساعة يده.. فقد استشعروا أن الشيخ قد أطال بعض الوقت فى قراءة القرآن قبل أن يختم جزءا جديدا.. وبدا البعض منهم يتململ فى مجلسه.. وتبادل البعض الآخر نظرات من يستعد للمغادرة وإشارات الاستعداد والتأهب.. فيبدو أنهم قد أجمعوا على أداء الواجب على عُجالة ومغادرة المكان سريعا كلُ فى طريقه .
أردت أن أثنيهم عن قرارهم هذا واجعلهم يمكثون بعض الوقت خاصة أن السرادق غير مزدحم بالناس وخَلت معظم الكراسى من المعزيين، جاء عامل البوفيه يحمل فناجين القهوة ليقدمها لنا ..وسريعا هدانى تفكيرى إلى حيلة عملية أنفذ بها مخططى دون أن أطلب منهم ذلك .. فقد اعتدت فى مثل هذه المناسبات أن أمتنع عن تناول ما يقدم من شراب واكتفى بتحية النادل .. ولكن هذه المرة وجدتها فرصة أصل بها إلى مأربى ..فأخذت من النادل فنجان القهوة وشرعت ارتشف منه ببطء.. وكان المقرئ قد أنهى قراءة جزء جديد ..وقام عدد من الحضور بمغادرة السرادق وتقديم واجب العزاء لأهل المتوفى.
نظر لى الزملاء نظرات ذات مغزى حتى أفهمها ونغادر سريعا قبل أن يشرع المقرئ فى القراءة مرة ثانية ونضطر للانتظار وقتا آخر قد يطول أو يقصر .. غير أنى تعمدت عدم النظر إليهم وجلست فى مكانى أرتشف من فنجان القهوة البارد وهم يحملقون فى وجهى بغيظ مكتوم .. وظللت هكذا حتى عاود الشيخ قراءة سورة جديدة، أنهيت عندها فنجان القهوة وتجنبت أن تلتقى أعيننا .. وحاولت الاستماع للتلاوة بخشوع.
تمضى دقائق قليلة ويرتفع آذان العشاء فينطلق الجميع خارجين من السرادق فى غبطة وسرور وكأنهم نالوا صك البراءة وغادروا سجنا يقيدهم لينطلقوا بعيدا كلُ إلى شأنه.
صباح اليوم التالى ..حضر مدير الإدارة لتوزيع عمل زميلنا المتوفى وتكليف كل منا بجزء منه إلى أن يأتى بموظف جديد يتسلم منا العمل ..تبادلنا النظرات ..وحاول كل منا التهرب من هذا العمل الإضافى الذى لم يكن فى الحسبان ..وعندما وجدنا الإصرار من المدير على تكليفنا بهذا العمل وانجاز الأعمال المتأخرة .. قبلنا على مضض وطالبناه بضرورة تعيين موظف جديد يحمل عنا عناء هذه الأعمال .. ولم نسترح إلا بعد أن أخبرنا أنه طلب من الإدارة سرعة انتداب أو تعيين موظف جديد للقيام بعمل الفقيد ..
مضى أسبوع ..وفوجئنا فى أحد الأيام بموظفة جديدة منتدبة من الإدارة تحضر فى الصباح وتجلس على مكتب زميلنا المرحوم وهى يبتسم وتعرفنا بنفسها وتطلب منا مساعدتها فى القيام بعملها الجديد ..
تبادلت النظرات مع الزملاء.. وترحمت على زميلنا الفقيد وهنأت الزميلة الجديدة.. ثم طلبت من عامل البوفيه أن يأتينا بأكواب الشاى وبعض الساندويتشات وجلسنا نتبادل النكات .
"النهاية "
عزاء - ارشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة