«جميل أنت فى الموت يا غسان، بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر، لقد انتحر الموت فيك، انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة، اكتمل الآن بك، واكتملت به، ونحن حملناكم - أنت والوطن والموت- حملناكم فى كيس ووضعناكم فى جنازة رديئة الأناشيد، ولم نعرف من نرثى منكم، فالكل قابل للرثاء، وقد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعى، أيها الفلسطينيون احذروا الموت الطبيعى».
هكذا كتب الشاعر محمود درويش مرثيته فى الكاتب والروائى والمناضل الفلسطينى «غسان كنفانى» الذى اغتالته إسرائيل فى الحازمية بضاحية بيروت الشرقية بالعاصمة اللبنانية بيروت فى مثل هذا اليوم «8 يوليو 1972»، ويتجاوز نص درويش الذى يأتى فى كتابه «وداعا أيتها الحرب، وداعا أيها السلام»، الوقوف عند محطة «غسان الإبداعية» فى الأدب والنضال والحياة، إلى الشعب الفلسطينى وتصميمه على الحياة وانتزاع حقه، وبلغ رثاء درويش حدا من الجمال أن الشاعر الفلسطينى كمال ناصر سأله بعد أن نشر نصه فى مجلة الهدف الأسبوعية وهى لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان غسان رئيس تحريرها: ماذا ستكتب عن موتى، بعد أن كتبت كل شىء عن غسان؟، وحسب «إلياس خورى» فى مقال «رجل تحت الشمس يدعى غسان كنفانى»: «ضحك محمود درويش يومذاك من النرجسية الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسى الحكاية إلى أن قتلت إسرائيل كمال ناصر بعدها بتسعة أشهر (10 إبريل 1973)».
«غسان» هو ابن جيل نكبة 1948 الفلسطينى بكل مرارة القسوة فى التنقل والرحيل، ولد فى عكا يوم 9 إبريل 1936، وانتقل إلى يافا ثم إلى صيدا فى جنوب لبنان مع والديه وأشقائه السبعة، ومنها إلى سوريا وحصل منها على شهادة الثانوية، وانتقل بعدها إلى الكويت حتى عام 1960، ثم عاد نهائيا إلى لبنان ليعمل فيها صحفيا، وينضم إلى حركة القوميين العرب عام 1963، ثم يشارك فى تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ويصبح رئيس تحرير جريدتها «الهدف»، ويصبح من أهم الكتاب الفلسطينيين الذين عبروا فى إبداعهم عن تطور الشخصية الفلسطينية من النكبة حتى حتمية الثورة المسلحة بحسب تعبير فاروق عبدالقادر فى دراسته «الرواية الفلسطينية من المنفى إلى الانتفاضة».
كان غزير الإنتاج بالرغم من موته المبكر «36 عاما»، فهو كاتب مقال، وروائى ومؤلف مسرحى وقصة قصيرة، وحتى اليوم يعد الروائى الفلسطينى الأول من حيث القيمة والأهمية، وكل إنتاجه كان يدور حول معنى واحد وهو أن تحرير فلسطين لن يتم إلا بالمقاومة المسلحة وليس شيئا آخر وله فى ذلك عبارة شهيرة: «كن رجلا تصل إلى عكا فى غمضة عين، أما إذا كنت لاجئا فقط فلن تراها أنت ولن يراها حتى أحفادك».
فى كل إنتاجه الأدبى يقدم «غسان كنفانى كل ما يخدم فكرته حول تحرير فلسطين بالكفاح المسلح، ورفض تصرف الفلسطينى خارج أرضه بنفسية اللاجئ، فعل هذا فى رواياته الثلاث «ماتبقى لكم» و«عائد إلى حيفا» و«رجال فى الشمس»، بالإضافة إلى إبداعه فى القصة القصيرة، وتزامن كل ذلك مع نضاله الحركى كقيادة بارزة فى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
جاء اغتياله ضمن مخطط وضعه جهاز الموساد الإسرائيلى عام 1972، بتوجيه من جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل بضرورة التخلص من رموز فلسطينية بعد أن تعددت العمليات الفدائية ضد أهداف إسرائيلية خارجية، وفى يوم 8 يوليو 1972 خرج من بيته إلى سيارته ومعه ابنة أخته لميس حسين نجم وعمرها 19 عاما التى تواجدت معه للالتحاق بالدراسة فى الجامعة الأمريكية بعد أن حصلت على شهادة الثانوية، وفور أن أدار محرك السيارة انفجرت بعنف بلغ حد تحطيم نوافذ العمارة التى كان يسكن فيها وكانت سيارته أمامها، ونتيجة للانفجار تمزقت الجثة إلى أشلاء صغيرة، تناثرت فى أنحاء مكان الحادث، وعثر رجال الأمن على إحدى يديه فوق سطح منزل مجاور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة