طريق شاهين فى عالم السينما لم يكن مفروشا بالورود، وربما كانت أشواكه هى فقط الحاضرة أحيانا كثيرة، بشائعات عدة ومعلومات خاطئة، وحقائق يراد بها باطلا، ومنع أفلامه، ويبدو أن ذلك كان بسبب آرائه السياسية وإيمانه بالليبرالية ومبادئها ومتطلباتها، ليتم محاربة يوسف شاهين فى عصور الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك، رغم أن شاهين كان مؤمنا بسياسة عبد الناصر ويعد أحد المؤيدين للناصرية.
أفلامه ليست مفهومة
ومن الأسلحة القاتلة التى تم استخدامها فى الحرب ضد يوسف شاهين أنه تم الترويج لصعوبة فهم أفلامه، وأنها تبتعد عن الواقع، وتحمل لوغاريتمات خاصة، ويصنعها شاهين لنفسه فقط، بل تردد أيضا أن أبطال أفلامه لا يفهمون الجمل الحوارية التى ينطقون بها فى أعماله، وبات هذا بمثابة القول الثابت فى انتقاد أفلام المخرج الراحل، وساهمت فى ذلك بشدة أقلام نقدية وموضوعات صحفية تتهم أفلامه بالغموض.
وتحمل شاهين ذلك النقد مدركا أنه يقدم فنا حقيقيا ولم يسع لمواجهته مفضلا التركيز فقط على ما يقدمه من أعمال سينمائية، تاركا لنا وللتاريخ حقيقة هامة تتمثل فى أنه قدم أكثر الأفلام ارتباطا بالواقع المصرى وتنوعت بين الدراما والكوميدى والرومانسية ومخاطبا فئات مختلفة من الشعب المصري، وتمثل هذه الأفلام الجانب الأكبر من تراث شاهين السينمائى وأبرزها فيلم "الأرض" إنتاج عام 1970 وبطولة محمود المليجى وعزت العلايلى ونجوى إبراهيم، وتم تصنيفه فى احتفالية مئوية السينما المصرية عام 1996 فى المركز الثانى ضمن أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية فى استفتاء النقاد.
وأيضا فيلم "الناصر صلاح الدين" بطولة أحمد مظهر والذى رغم الأخطاء التاريخية الشديدة فى العمل إلا أنه يعد من أفضل الأفلام التى تم تقديمها فى السينما المصرية، وتناولت سيرة البطل صلاح الدين الأيوبي، وأيضا فيلم "سيدة القطار" بطولة يحيى شاهين وليلى مراد وعماد حمدي، وفيلم "صراع فى الوادى" بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، فجميعها أفلاما هامة فى تاريخ السينما المصرية، ومازالت تعيش بيننا حتى الآن، ويتغنى بها النقاد ويفخرون بكونها جزءا من تاريخنا السينمائى.
وامتلك شاهين رؤية مستقبلية ميزته عن غيره من المخرجين، لكن يبدو أن هذه الرؤيا كانت نقمة عليه، وهو ما يتجسد بشكل كبير فى فيلم "باب الحديد" الذى اخفق فى تحقيق إيرادات مرتفعة عندما عرض فى دور السينما، لكنه عندما تم عرضه على شاشات التليفزيون بات واحدا من أيقونات السينما المصرية.
مخرج ديكتاتور
أما ثانى الحروب التى واجهت يوسف شاهين فكانت الزعم بأنه مخرج ديكتاتور، ينفذ ما يدور فى رأسه فقط، ويتحكم فى الممثلين وطاقم أى عمل فنى يتولى مهمته، وإن كانت هذه حقيقة لكن يراد بها باطلا، فمن المعروف بل والبديهى أيضا أن يتحكم المخرج فى جميع عناصر العمل الفنى، فهو "رب العمل" والمسئول الأول والأخير عن توجيه الممثلين والكاميرات والديكور، فجميع هذه العناصر يجب أن يمتلكها المخرج، وذلك لا يمنع أن مديرى التصوير ومهندسى الديكور والممثلين لهم رؤيتهم فيما ينفذونه لكن هذه الرؤية يجب أن تتفق فى النهاية مع ما يراه المخرج فهى منظومة عمل واحدة يمسك بخيوطها شخص واحد هو المخرج.
ولكل مخرج أسلوبه الخاص الذى يتبعه فى توجيه الممثلين وعناصر العمل الفنى، بحكم فهمه للسيناريو وقراءاته له من منظوره الخاص، فهو ليس مجرد شخص قابع خلف الكاميرات يصرخ قائلا: أكشن.. ستوب"، ثم يقوم بقص ولزق المشاهد، بل إنه الشخص الوحيد فى الفيلم الذى يمر بجميع مراحل العمل فهو يتسلم السيناريو ويطالب بتعديلات إن كانت هناك ضرورة ثم يختار الممثلين واختيار اماكن التصوير فيما يسمى بـpre-production قبل أن يدخل فى مراحل التصوير ثم المونتاج والمكساج حتى يخرج المنتج النهائى للجمهور.
ويزداد الأمر تعقيدا هنا عندما نتحدث مع مخرج بقيمة يوسف شاهين له فلسفته الخاصة، ورؤيته واختياراته التى صنعت منه مخرجا يتمتع بصيت عالمى لدى المهتمين بصناعة السينما بالخارج، لذا فهو يريد أن يصل بفكره إلى جميع المشاركين بالفيلم حتى لا يشذ منهم أحدا ويخرج العمل مشوها.
ومما ينفى المعنى الباطل الذى كان البعض يروجه حول ديكتاتورية يوسف شاهين، أن المخرج الراحل وافق على أن يضع اسم تلميذه خالد يوسف بجواره كمخرج على أفيش فيلم "هى فوضى" والتى تعد آخر أفلامه التى قدمها فى السينما، وانتقد فيه بشدة أداء جهاز الشرطة وكأنه يبعث برسالة إلى نظام مبارك بأن هناك ثورة قادمة من الشعب ضد الفساد وتجاوزات بعض أفراد جهاز الشرطة وأن التمادى فى هذه التجاوزات قد يطيح بالنظام نفسه وهو ما حدث يوم 25 يناير 2011، ومن المفارقات العجيبة أن هذا اليوم يوافق عيد الشرطة التى تحدث الفيلم عن تجاوزاتها، وأيضا يوم ميلاد يوسف شاهين.
الفيلم الحرام والعيب
لمواجهة أجهزة الدولة فى حروبها ضد أى مبدع تختلف معه فى وجهة النظر، دائما يظهر السلاح البديهى والأسهل، والذى يتمثل فى اعتراض جهاز الرقابة ومنع الفيلم من دور العرض، وهو ما حدث مع شاهين عدة مرات منها فى عصر الرئيس الراحل أنور السادات الذى منع لمدة عامين عرض فيلمه "العصفور" لجرأته السياسية حيث تدور أحداث الفيلم قبيل وقوع هزيمة عام 1967، حول الصحفى "يوسف" الذى يجرى تحقيقا صحفيا عن السرقات التى تقع فى القطاع الحكومى، ويكتشف فساد مسئولين بجهاز الدولة الحكومى يتورطون فى سرقة معدات إحدى المصانع، ويشير الفيلم إلى أن الفساد كان سببا فى الهزيمة، وتردد أن الجنسية المصرية كادت أن تًسقط عن شاهين لكن تم الاكتفاء بمنع الفيلم، وكأنه عيبا أن ينتقد عمل فنى فساد موظفى الدولة.
وواجه فيلم "هى فوضى" مشكلة أخرى لأنه يهاجم جهاز الشرطة وبعد محاولات عدة للإفراج عنه، اشترطت الرقابة أن تضع علامة استفهام لعنوان الفيلم ليصبح "هى فوضى؟" بصيغة استفهامية بدلا من إقرار أمر واقع بذاته.
وكما تم منع أفلام شاهين بسبب "العيب" و"ما يصحش" تم منعها أيضا بدعوى أنها حرام، حيث حدث ذلك فى عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وتم منع فيلمه "المهاجر" بطولة خالد النبوى ومحمود حميدة ويسرا، وتم منع عرض الفيلم وواجه مشاكل مع الرقابة بدعوى إن قصته تتشابه مع قصة سيدنا يوسف، وتم رفع دعوى قضائية وقتها ضد يوسف شاهين، حيث يعرض الفيلم قصة شاب يدعى "رام"، يقرر أخواته التخلص منه ويلقونه فى مركب متجهة إلى مصر، لكنه يصل إلى مصر ويتعرف على قائدها وزوجته التى تقع فى حبه، لكنه ينسحب ليعيش فى أرض وهبها له القائد، فيحب هناك فتاة وتتغير حياته.
ورغم أن يوسف شاهين كان يحب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومن أشد المعجبين به وتغنى بالمشروع الناصرى فى فيلم "الناصر صلاح الدين"، إلا أنه يتردد أنه اضطر للعمل خارج مصر لبعض السنوات فى الستينات من القرن الماضى، بسبب خلافاته مع رموز النظام وقتها وتلك هى الفترة التى تولى فيها إخراج فيلم "بياع الخواتم" النجمة فيروز، وتمكن بعدها من العودة إلى مصر مرة أخرى، ثم تولى الإخراج التليفزيونى لجنازة عبد الناصر والتى علق عليها بصوته الفنان محمود ياسين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة