روجت الحضارة الغربية لنفسها، وروج الذين انبهروا بها من أبناء الشرق لها، باعتبارها الحضارة النموذج الخالية من العيوب الأخلاقية، المصابة بها الحضارات الأخرى.. ووفقًا لهذا يتعين على الحضارات الأخرى أن تتنحى جانبًا، وتخلى مكانها لتحل محلها الحضارة الغربية.. وقد ساعد على خلق هذه التصورات فى الأذهان ذلك التقدم العلمى، الذى أحرزته الحضارة الغربية، والبريق المبهر الذى تكتسى به.. وقد صدرت لنا هذه الحضارة مع ما أحرزته من أدوات التقدم منظومة القيم الخاصة بها، باعتبارها هى السبيل الأوحد للتقدم الإنسانى، ولا سبيل لذلك إلا بتلك.. وقد جندوا من بين صفوفنا من يروج لذلك.. وطبيعى أن ننخدع بذلك لأن مزاعمهم حول هذه القيم تؤيدها وقائع التقدم على الأرض.. ومطاعنهم على حضارتنا تؤيدها كذلك. ـ وبنفس القدر ـ الوقائع على الأرض . ثم جاء الكشف عن وقائع الفساد فى إمبراطورية الفيفا مؤخرًا، مجلس إدارة كرة القدم فى الكرة الأرضية، وأبشع صور الفساد تمثلت فى الرشوة وخراب الذمم، وبيع الضمائر، وما يسبق ذلك، وما يلحقه من صور أخرى غير معلنة، لتنكشف عورة هذه القيم التى نخرها السوس من الداخل، ولم يبق منها سوى القشرة الخارجية اللامعة فقط ، وأنها لم تعد صالحة للمزايدة بها علينا . فمنظومة القيم الغربية هى التى قادت البشرية إلى حربين عالميتين، وهى التى قامت مصانع الأسلحة فيها على استراتيجية اشعال الحروب، وخلق مناطق للنزاع حول العالم، حتى تمثل أسواقًا لترويج أسلحتهم، والمتاجرة بالدماء . وهى الحضارة التى قامت على استحلاب دماء الشعوب الأخرى طوال الحقبة المسماة ـ تدليسًا ـ الاستعمارية، وهى تقوم على الاستخراب، وسرقة موارد الشعوب وخيراتها الوفيرة . فهل كان كل ذلك كان يجرى دون غش أو تدليس أو كذب أو خداع أو سرقة أولصوصية أو استغلال أو رشوة؟ إذن متى توافرت أسباب الفساد للغربيين فسدوا، فهم بحضارتهم المبهرة ليسوا ملائكة مطهرين، بل شأنهم فى ذلك شأن بقية البشر، وأن حضارتهم تحمل ذات فيروسات الحضارات الأخرى، وأن منظومة قيمهم الدينية أو الوضعية لم تحل دون اقترافهم لهذه الموبقات، أو أن تنحيتهم للدين جانبًا، واتخاذهم قيمًا وضعية بديلة، جعلهم بمنأى عن هذه الشرور لأنها خالية من القيم السلبية أو اللاقيم كما يزعمون، فقد تبين للكافة مدى الفساد الذى بلغته.. وليس ذلك انتصارًا لفكرة اللاقيم، والدعوة لسيادتها، وإنما هى كشف لنقائص الحضارة الغربية التى ما فتئت تلصق هذه النقائص بحضارتنا وديننا وقيمنا.. وأن النقائص والعيوب ترجع إلى عيوب فى الدين، وإنما إلى استعداد المتدين، ومدى تدينه . وأن مطلق إنسان لو تهيأت له ظروف الفساد وبيئته لفسد، ما لم يكن محروسًا بمنظومة من القيم الحاكمة . وأن الأمر لا علاقة له بتفوق قيم دينية لدين ما على ما عداها من قيم لديانة أخرى، واتخاذ ذلك مطية للطعن فى دين الآخر، طالما أنهما ينتميان لمصدر واحد يمثل الصانع للبشر، وأن هذا الدين أو ذاك هو كتالوج الصيانة لتلك الصناعة، فلو تمت صيانة الصنعة بمنأى عن كتالوج صيانتها لفسدت، سواء كان موقعها الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب، أو الجهات الفرعية المنبثقة عن الجهات الأربع الرئيسة . ونخلص من ذلك إلى القول بأنه لا محل للدعوة بخلع عباءة الدين باعتباره العقبة الكؤود أمام التقدم . ولا محل مطلقًا لمحاكمتنا وفقًا للقيم الغربية، باعتبارها القيم النموذج، التى تحول بيننا وبين العيوب التى تلحق بالنفس البشرية، باعتبارها نفس قد ألهمها صانعها الفجور والتقوى . ولا مجال مطلقًا للعنصرية المتبدية فى السلوك الغربى تجاهنا، باعتبار أن تفوقهم وتخلفنا يرجع إلى الجينات الوراثية فى الشخصية، ومكونات الدم فى العروق، ومن ثم فإن التلقى عنهم أمر مقدور كما يتصورون.. إذ المنطق يقتضى بعد انكشاف سوءة الفساد الغربى على هذا النحو الفاضح، أن نتعامل على قدم المساواة.. وأن يدركوا أن لدينا من القيم ما يحفظ للبشرية حياتها وتقدمها على نحو آمن وهادئ.. وأن التقدم فى المضمار المادى لا يمثل بديلًا منطقيًا للجانب الروحى والأخلاقى للحياة، وأن الإنسان قد خلق من روح ومادة.
حسن زايد يكتب: فـسـاد الـفيـفـا بين الدلالــة والرمــز
الجمعة، 05 يونيو 2015 10:12 ص
الفيفا
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة