من تكون أنت من دون ذاكرة، من دون تاريخ، من تكون أنت بلا ماض؟
لن تكون شيئًا بالتأكيد، ستكون هباءً منثورا.
نحن لا نعرف إلا قليلا عن أى شىء، عن أى زمان وأى مكان على أرضنا هذه، وفى المستقبل القريب، سيضيع هذا القليل، ونصبح لا نعرف شيئًا عن أى شىء ولا عن أنفسنا أو أسلافنا، وذلك لأنه ومنذ آلاف السنين يتم محو ذاكرة البشرية بشكلٍ مُنظم وحثيث، إذ فقدنا الملايين من المخطوطات والوثائق فى حرائق أمهات المكتبات فى الإسكندرية بمصر وفى الصين وإيرلندا والمكسيك وروما وأمريكا الجنوبية، لقد احترقت وضاعت الذاكرة الورقية الموثقة على الأوراق ولم يتبق لنا غير الذاكرة الحجرية –إذا جاز التعبير- وما أقصده هنا هو الآثار.
لكن هذه الذاكرة التى تحوى تاريخ البشرية الموثق على الأحجار تتعرض هى أيضًا منذ مئات السنين إلى المحو عن طريق التدمير والسرقة والتهريب، ونستطيع تتبع ذلك من خلال خريطة المتاحف العظيمة التى كانت فى العراق والشام وليبيا واليمن وغيرها ومن خلال الأوضاع السياسية للدول التى هى منابع الحضارات القديمة.
مهلا.. لا أظننى سأخوض فى الحديث عن عصور الحضارات أو عن جرائم تدمير الآثار ومن يتلذذون بفعل ذلك، لكننى سأتحدث عن عصر آخر، عن عصر الحضارة الكلامية، فنحن نعيش الآن فى أزهى العصور الكلامية، بعد أن دُمرت معظم الحضارات السابقة وأصبحت جثثًا مُحطمة يتم دفنها من أجل إهانتها وليس إكرامها.
وأنى أتساءل من أين تأتى شعوب هذا العصر بكل هذا الكلام وفى كل منفذ على سطح هذا الكوكب التعس؟
فى مواقع التواصل الاجتماعى، تويتر وفيسبوك، وفى الإعلام وعلى صفحات الجرائد وفى المواصلات العامة والشارع وكل موطئ قدم تدب عليه قدم مخلوق بشرى، إذ تحول الجميع –فجأة- إلى شهرزاد التى ظلت ألف ليلة وليلة تتحدث وتقصص حكاياتها الواقعية والخيالية على شهريار كى تضمن ألا تطير رقبتها، ورغم أن كل هذا العدد من البشرية الذى لا يكف عن الكلام ليس مضطرًا إلى ذلك إذ لا سيف مسلطًا على رقبته ولا منصور يقف على بعد مترًا واحدًا يقهقه بصوتٍ جهورى فى انتظار رقبة يدلل بها سيفه، إلا أنهم لا يقولون شيئًا مفيدًا، ولا يقدمون حلولاً لكل القضايا التى يقتلونها مناقشة وشجارًا وسبًا وسخرية.
لقد تحولت جموع الشعوب العربية إلى محللين استراتيجيين وخبراء سياسيين، يصولون ويجولون فى ساحات السياسة، يكشفون المؤامرات المزعومة ويتنبأون بالتحالفات القادمة وبالحروب التى على وشك الاشتعال، كله كلام وكلام، ولا أدرى من أين يأتون بكل هذه الطاقة التى يحولونها إلى كلام؟ ألا يكون من الأجدر أن تتحول كل هذه الطاقة المهولة والمهدورة إلى أفعال من شأنها أن ترتقى بهذا الوطن ليتعافى من وعكاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد جمال عبد النور
مقال رائع
إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل