فى الصباح حمل شبكته وذهب إلى مكانه المعتاد على شاطئ البحر. قبل أن يرمى شبكته فكر قائلا: أنا معتاد على الصيد فى هذا المكان، لماذا لا أجرب الصيد فى مكان آخر، فربما كان حظى فيه أفضل!
مضى إلى موضع آخر، فوق إحدى الصخور، ورمى شبكته وانتظر قليلا، ثم أخرج الشبكة فلم يجد فيها شيئا. رماها مرة أخرى وانتظر وقتا أطول هذه المرة، ثم أخرج الشبكة، فلم يجد فيها ولا حتى سمكة واحدة ! نفخ حامد فى ضيق، لكنه رغم ذلك لم ييأس ورمى شبكته مرة أخرى. هذه المرة خرجت الشبكة بسمكة واحدة، صفراء، شديدة الصفرة. خلّصها حامد من الشبكة ووضعها فى قفّته التى يضع فيها الأسماك، وعاد يرمى بشبكته فى البحر مرة أخرى، لكنه لم يظفر ولا بسمكة أخرى غيرها، رغم أنه راح يرمى شبكته فى البحر مرارا وتكرارا.
حمل حامد شبكته والقفة التى بها السمكة ومضى فى طريق العودة. وطوال الطريق لم يتوقف عن التفكير: ما هذا الحظُّ الذى يلازمنى ؟ سمكة واحدة بعد أيام طويلة امتنع فيها السمك عن الوقوع فى شبكتي؟ سمكة واحدة، لا أعرف هل أذهب بها إلى السوق أم لا ؟ وهل سيشترى أحد سمكة واحدة ؟ وهل سيشترى أحد سمكة غريبة كهذه ؟ أنا لم أصطد ولم يصطد أحد مثلها من قبل ؟
وصل حامد إلى السوق قبل الظهيرة بقليل. وضع قفته على الأرض بجوار الصيادين الآخرين. رفع شالا قماشيا كان يغطى به السمكة، فبانت السمكة الصفراء، وحيدة، لا شيء معها. ضحك بعض الصيادين حين رأوا القفة وليس بها سوى سمكة وحيدة. ابتسم آخرون ابتسامة ساخرة ؛ فأى صياد هذا الذى يصطاد سمكة وحيدة، لها هذا اللون الشديد الاصفرار؟ لم يكن يخفى عليهم أنه لم يصطاد ولا سمكة منذ عدة أيام، وها هو ذا يصطاد أخيرا سمكة وحيدة لها هذه المواصفات. فياله من صياد !
كظم حامد حزنه وتمتم قائلا: الرزق بيد الله، ومادام أننى أخرج كل يوم وأفعل ما على فلا يجب أن أحزن.
جاء المشترون، فاشتروا وانصرفوا، وباع الصيادون أكثر ما معهم من أسماك، وبقى حامد، لا يقترب منه أحد، ولا يشترى أحد سمكتة الصفراء، العجيبة.
قبل العصر بقليل جاء رجل تبدو عليه علامات النعمة، وآخر من رجال الملك يعرفه كل من بالسوق. راح الرجل الأول ينظر إلى قُفف الصيادين، متفرجا على ما بها من سمك. كلما مرّ بصياد ورأى ما أمامه مطَّ شفتيه؛ تعبيرا عن عدم عثوره على ما يبحث عنه. حينما وصل إلى سمكة حامد نظر إليها باهتمام ولم يحوّل عنها عينه!
صاح الرجل بفرحة: ها هى ذى السمكة التى نبحث عنها!
سأل الرجل الآخر الذى يعمل فى بلاط الملك :
- بكم تبيع هذه السمكة أيها الرجل ؟
قال حامد:
- هى لك يا سيدى .. بدون مقابل !
قال الرجل: لا .. ولكنا سندفع لك مائتى ألف دينار.
فغر حامد فمه دهشة، قال: ماذا؟ كيف؟ آآآ.. لماذا يا سيدي؟
اقترب الرجل الآخر الذى تبدو عليه علامات النعمة من حامد.. ومال بوجهه عليه وقال:
- هذا الرجل يعمل فى قصر الملك، أرسله الملك معى أنا طبيب الملك الخاص. مولانا الملك يعانى من مرض نادر، وعلاجه فى سمكتك هذه !
تعجب حامد، وهتف رغما عنه :
- فى سمكتى هذه ؟
- نعم !
رد الرجل، الطبيب، ثم أكمل قائلا :
- سمكتك هذه سمكة نادرة. فى كل ألف ألف سمكة توجد سمكة واحدة مثلها. أنت محظوظ لأنك من بين كل الصيادين اصطدتَ هذه السمكة.
تمتم حامد بذهول :
- معقول ؟
- نعم !
أجاب الطبيب، ثم أكمل حديثه قائلا :
- منذ أن مرض الملك ونحن نبحث عن سمكة من هذا النوع، ولم نجد. وأخيرا هاهى ذى عندك!
- ولكن يا سيدى مائتا ألف دينار؟
- نعم.. إنها غالية.. ونحن نريدها بأى ثمن.
وأخرج رجل الملك كيس نقود كبير ومد يده به إلى حامد، فأخذه حامد وهو لا يصدق نفسه.
سيطر على الجميع صمتٌ، لم يقطعه سوى صوت حفيف ملابس الرجل المقرب من الملك وهو يمد يده ويأخذ السمكة. رفعها ووضعها فى طبق صغير من سعف النخيل. ثم قدَّمها للطبيب الذى تناولها، ورشّ عليها قليلا من الملح لكى يحفظها أطول فترة ممكنة. أخذا السمكة فى إناء ذى غطاء، وانصرفا.
ظل حامد واقفا فى مكانه مذهولا .. ثم أخيرا انحنى فحمل أشياءه، وقفل عائدا، بينما وقف الصيادون ينظرون فى أثره وهم لا يصدقون ما رأوا .
موضوعات متعلقة..
"قصور الثقافة" تعلن المسابقة الأدبية المركزية للهيئة.. والرواية تتراجع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة