استيقظت ذات يوم على صوت ميكروفون مسجد شارعنا ينعى لأهل المنطقة الحاج فتحى..ويعلن عامل المسجد عن موعد الدفن وصلاة الجنازة..أصابنا الوجوم وحالة من الحزن تملكتنا على وفاة جارنا العزيز..فالحاج فتحى يقطن الدور الأول بالعمارة التى نقيم فيها منذ أكثر من 50 عاما.. وقد تربينا على يديه..فهو بمثابة والد لنا جميعا.. وهكذا سكان هذه العمارة العتيقة التى تُعد من أقدم المبانى فى مدينتنا..وجميع سكانها يربطهم الحب والمودة وعلاقة امتدت عدة عقود فصار صغيرهم ابنا لكبيرهم..وكبيرهم والدا لصغيرهم..وروح الأسرة الواحدة تربط بين الجميع..وقد ولدت ونشأت بينهم حتى جاوزت الخمسين من عمرى..وشب أبنائى فى الشقة التى ولدت وتربيت فيها..فقد استقريت بها بعد وفاة والدى.. وفعل الكثير من أبناء الجيران فعلتى.. وهكذا شهدت تلك البناية 3 أجيال متعاقبة.. الأجداد والآباء والأحفاد..تربطهم عشرة السنين ويجمعهم الود والاحترام.
بقدر توقعنا وفاة الحاج فتحى بين لحظة وأخرى حيث إنه جاوز من العمر الثمانين..وسكن المرض جسده النحيل..إلا أننا تأثرنا كثيرا وحزنا على فراقه.. فقد ألفنا الحياة فى كنفه واعتدنا وجوده بيننا.. وتحيته كل صباح وهو جالس فى شرفة شقته يرتشف من كوب شاى ساخن فى بيده.. أو يتصفح عناوين الأخبار من خلف نظارته السميكة.. ونلقى عليه التحية ونتبرك بدعواته لنا ونحن متوجهون إلى أعمالنا.
جارنا العزيز لم يكن له سوى ولد وحيد يعمل بالخارج فى إحدى الدول الخليجية.. ويعيش بمفرده فى شقته بعدما توفت زوجته منذ أمدا بعيد.. وتوفى له ولدان آخران فى حادث منذ عدة سنوات..وجميع سكان العمارة يتابعونه للاطمئنان عليه وقضاء حوائجه.. فهو بمثابة والد لنا جميعا ونحبه ونقدره.. وأيمن فتحى ابن جارنا الفقيد رتب حياته على الاستمرار فى عمله وحياته المستقرة خارج مصر وعزم على عدم العودة..وقرر بيع شقة والده وقام بعرضها على سكان العمارة إن كان أحدهم بحاجة إليها..خاصة وأنه قد اشترى شقة كبيرة فى أحد الأحياء البعيدة يقضى بها إجازة الصيف السنوية مع أولادة ثم يعاود السفر والرحيل مرة أخرى.
ولما لم يشتريها أحد من السكان.. واعتذر له الجميع قرر عرضها للبيع عند سمسار المنطقة لعدم جدوى الاحتفاظ بها.
صاحت زوجتى فى صباح أحد الأيام تطالبنى باللحاق بها فى الشرفة.. وأشارت بيدها إلى رجل وشاب يدخلان العمارة..وقالت إنه محمود السمسار يصطحب معه مستأجر لمعاينة شقة جارنا بالدور الأرضى..
انتظرت بالشرفة حتى خرجوا سويا..ورأيت شابا فى مقتبل العمر.. فى رقبته سلسلة ذهبية..ويرتدى "تيشيرت" بدون أكمام..وبنطلون قصير"برمودا".. ويطلق شعره بكثافة يسترسل فوق قفاه.. وسرعان أن اتجه نحو سيارة رياضية حمراء اللون استقلها وانطلق بها مسرعا..
لم أعط للأمر بالاً.. ونفضت موضوع هذه الشقة من رأسى.. وانتظرت ماذا ستفعل الأيام.
ذات يوما وأنا عائدا من عملى ظهرا.. وقد حملت معى بعض طلبات المنزل من لحوم وفاكهة وغير ذلك..واليوم شديد الحرارة..وقد أخذ منى التعب ما أخذ..أسرعت وأنا أمنى نفسى بحمام..وبعض النوم استعيد به بعض النشاط.
اتجهت بسيارتى نحو المكان الذى اعتدت ركنها فيه.. فوجدت سيارة تحتله..عزيت ذلك بوجود زائر لأحد السكان وسرعان ما سوف يغادر..فأخذت سيارتى وقمت بركنها فى مكان بعيد حتى تغادر السيارة الغريبة.
وما أن وطأت قدمى مدخل العمارة حتى فوجئت بكلب يتجاوز ارتفاعه الحمار.. وله وجه أقبح من الشيطان.. ما أن رآنى حتى هجم على وكاد أن يفتك بى لولا ستر الله ووجود سلسلة فى رقبته قيدت حركته وجعلتنى أنفلت من بين أنيابه بصعوبة.. وهو ينبح نباحاً كالعواء لم أسمع له مثيل من قبل.
وتمر دقائق كالدهر.. ويتجمع السكان وأهل الشارع..وإذا بالفتى الذى رأيته منذ عدة أيام مع محمود السمسار يخرج من شقة جارنا.. وابتسامة عريضة على وجهه.. ويبادرنى بقوله.. أسف" ياعمو".. لقد اشتريت الشقة منذ يومين ونقلت بها اليوم..وهذا كلب للحراسة أحضرته معى ليمنع دخول الغرباء.. وقد هاجمك لأنه لم يتعرف عليك..ولكن مع الأيام لن تصبح غريبا عليه..
وسط الجلبة وحالتى المتردية تذكرت السيارة الحمراء التى تقف مكان سيارتى.. إنها نفس السيارة التى رأيتها مع هذا الشاب منذ عدة أيام.
هاهى سيارته تحتل مكان سيارتى..وكلب ابن... يهاجمنى ويكاد يفتك بى.. لأنى غريب عنه.. وأنا الذى أقطن بالعمارة والمنطقة منذ ما يزيد عن نصف قرن.
نظرت لهما ملياً.. وأصابنى الصمت..وتوجهت إلى شقتى..وشعور بالغربة يتملكنى.
"النهاية "
ورقة وقلم
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
زميل مهنة
زميل مهنة
أسلوب راقى بسيط طريقة السرد بها سلسة دائما ب توفيق