ومر بخاطرى شريط طويل من المشاهد.. لحظة رأيت أول قصة تنشر لى.. ولحظة تخرجت من كلية الطب.. ولحظة حصلت على جائزة الدولة فى الأدب.. ونشوة الحب الأول والسفر الأول.. والخروج إلى العالم الكبير متجولا بين ربوع غابات إفريقيا العذراء.. وطائرا على ألمانيا وسويسرا والنمسا وإيطاليا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.. ولحظة "قبض" أول ألف جنيه.. ولحظة وضع أول لبنة فى المركز الإسلامى بالدقى.. استعرضت كل تلك اللحظات وقلت فى سرى لا.. ليست هذه اللحظة
بل هى لحظة أخرى ذات مساء.. لحظة اختلط فيها الفرح بالدمع بالشكر بالبهجة بالحبور، حينما سجدت لله فشعرت أن كل شىء فى بدنى يسجد.. قلبى يسجد.. عظامى تسجد.. أحشائى تسجد.. عقلى يسجد..ضميرى يسجد.. روحى تسجد.. حينما سكت داخلى القلق وكف الاحتجاج ورأيت الحكمة فى العدل فارتضيته، ورأيت كل فعل الله خير، وكل تصريفه عدل، وكل قضائه رحمة، وكل بلائه حب.. لحظتها أحسست وأنا أسجد أنى أعود إلى وطنى الحقيقى، الذى جئت منه وأدركت هويتى وانتسابى وعرفت من أنا.. وأنه لا أنا.. بل هو.. ولا غيره.
انتهى الكبر وتبخر العناد وسكن التمرد وانجابت غشاوات الظلمة، وكأنما كنت أختنق تحت الماء ثم أخرجت رأسى فجأة من اللجة لأرى النور وأشاهد الدنيا وآخذ شهيقا عميقا وأتنفس بحرية وانطلاق.. وأى حرية.. وأى انطلاق يا إلهى.. لكأنما كنت مبعدا منفيا مطرودا أو سجينا مكبلا معتقلا فى الأصفاد ثم فك سجنى.. وكأنما كنت أدور كالدابة على عينيها حجاب ثم رفع الحجاب..
نعم.. لحظتها فقط تحررت.
نعم.. تلك كانت الحرية الحقة.. حينما بلغت غاية العبودية لله، وفككت عن يدى القيود التى تقيدنى بالدنيا وآلهتها المزيفة.. المال والمجد والشهرة والجاه والسلطة واللذة والغلبة والقوة.
وشعرت أنى لم أعد محتاجا لأحد ولا لشىء لأنى أصبحت فى كنف ملك الملوك الذى يملك كل شىء.
كانت لحظة ولكن بطول الأبد.. نعم تأبدت فى الشعور وفى الوجدان وألقت بظلها على ما بقى من العمر، ولكنها لم تتكرر.. فما أكثر ما سجدت بعد ذلك دون أن أبلغ هذا التجرد والخلوص، وما أكثر ما حاولت دون جدوى.. فما تأتى تلك اللحظات بجهد العبد ورغبته بل بفضل الرب.
ولقد عرفت فى تلك اللحظة أن تلك هى السعادة الحقة، وتلك هى جنة الأرض التى لا يساويها أى كسب مادى أو معنوى.
يقول الله سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام (واسجد واقترب) 19 – العلق.
إسماعيل محمد بشير يكتب: سألت نفسى عن أسعد لحظة عشتها..؟؟
الإثنين، 15 يونيو 2015 06:02 م