تقف أحيانًا صامتًا تتأمل ما يدور من حولك وتسأل نفسك: أى زمن هذا الذى نعيش فيه؟ هل نحن نمشى صعودًا أم حالنا ينحدر سريعًا نحو هوة عميقة؟ تحتار أى وصف يمكنك أن تختصر به ما أنت عليه اليوم، وأى علامة بارزة يمكنك أن تستدل بها إلى طريق هذا العصر؟
إن نظرت إلى المجتمعات العربية عمومًا، وإلى "رجل الشارع" الذى يتحدثون نيابة عنه دائمًا، تجد أن حاله لا يسر، بل يزداد سوءًا اجتماعيًا واقتصاديًا، وأن الحروب تشغل باله، فإما أنها تهدد حياته وأمنه بشكل مباشر، وإما أنها تؤرقه خوفًا من امتدادها إليه.
أخلاقيًا يتراجع الإنسان العربى فى كثير من الدول إلى حدود العدم أحيانًا، والتقاليد والقيم لم تعد تشغل باله. عنيف هو، يخلط بين مفهومه الخاطئ لحرية الرأى وقول الحقيقة، وبين المعنى الحقيقى للكلمة والذى يفرض على المرء الرقى أولاً والتحرر من الفكر العقيم والجهل ثانيًا، كى يتسلح بالعقل الراجح الذى يعرف كيف يزن الأمور والكلمات قبل أن ينطق بها.
يقولون لك: مسكين هذا الإنسان، فهو مشغول بأشياء حياتية يومية كثيرة، فرضت عليه ترك المعرفة والثقافة والرقى بالأخلاق خلفه كى يستطيع أن يحمى أسرته ويحصل على القوت وعلى مكان له فى مجتمعه. لكن هل كان الزمن الماضى أكثر رفاهية من اليوم والفقراء فيه أكثر سعادة؟ وقتها لم يكن العلم منتشرًا كثيرًا، لكن الناس كانت تعرف أصول اللباقة واللياقة فى الكلام والتصرف. كانت الأناقة عنوان أهل زمان، والأدب سيد فى كل الأوقات حتى فى الشارع والأزقة الضيقة. هل كان فلاح الأمس أو أى عامل بسيط أكثر وعيًا وحكمة من فلاح وعامل اليوم؟
ترى هل كان ابن القرية أكثر سعادة وهو بالكاد يفهم من أين يأتى صوت المذيع فى الراديو، ويرى أن التليفزيون اختراع عجيب، وإسماعيل ياسين يُفرح قلبه بحركة وضحكة وموقف ساذج على الشاشة؟ لماذا لم يعد يشعر بتلك الفرحة البريئة وقد أصبح أكثر تطورًا مع انتشار العلم، ووصول "الموبايل" والإنترنت إلى خدمته حتى وإن كان يسكن القرى البعيدة أو فى "الغيط"؟
غريب هذا التناقض، فنحن نتحدث عن تطور كبير فى العلم والتكنولوجيا، وقدرة الأجيال الجديدة على الابتكار بسهولة، والتواصل مع مختلف جنسيات العالم، والتحدث بأكثر من لغة، واكتساب المزيد من المعرفة.. وفى نفس الوقت، نرى التراجع المخيف فى السلوكيات والتحجر فى العقول، والجهل فى الثقافات، وتقوقع الإنسان على ذاته.
نعيش زمن الانبهار بالتقنيات، والانهيار فى الأخلاقيات. نجاحات فى المدارس والكليات، ورسوب فى مدرسة الحياة. ننتصر على الجهل بجهل أكبر. بيننا شباب مخترعون، متحمسون، مندفعون أكثر من أى وقت مضى.. وهمة ونخوة وشهامة وتفاهم وترابط وحوار ومحبة أقل من أى وقت مضى. هل عرفت بأى زمن نعيش؟.