نشوى رجائى السماك تكتب: على الحدود

الخميس، 14 مايو 2015 08:00 م
نشوى رجائى السماك تكتب: على الحدود ورقة وقلم - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
امتطى جواده حاملا ما تبقى من سنوات عمره وزادا من التجارب والذكريات بأفراحها وآلامها.. انطلق الجواد تارة راكضا يطوى الأرض تحت قدميه دون تمهل وتارة أخرى يسير متثاقلا وكأن الجاذبية الأرضية تضاعفت مئة ضعف بل إنه أحيانا كان يستدير بفارسه وكأنما قد انتوى الرجوع مرة أخرى إلى حيث انطلق.

وبين ركوض متعجل وخطوات متثاقلة انقضت رحلتهما وانطوت الأرض الواسعة تحتهما حتى وصلا إلى الحد الفاصل بين الأرض التى اختار الرحيل الأبدى إليها منذ سنوات وهو الآن يغادرها والأرض التى لملم جذوره من باطنها يوما ما ليرحل إلى وطن جديد.

أوقف جواده عند هذا الحد الفاصل ثم ترجل عنه ليقف ناظرا ببصر شاخص إلى المدى أمامه بينما جواده ينظر إليه مشفقا عليه مشاطرا إياه حيرته وألمه.

ما أصعب الوقوف عند حدود الأشياء دون القدرة على المضى بخطوات ثابتة وروح مستريحة إلى ما وراء هذه الحدود.. ولكنه لم يشعر أبدا فى هجرته الأولى بمثل هذه الحيرة وهذا الألم ولم يتوقف وقتها عند تلك الحدود عاجزا عن التقدم أو الرجوع إلى الخلف.

فى هجرته السابقة استطاع بكل اقتدار وهمة أن يلملم جذوره فى حقيبة سفره أما هذه المرة فقد ترك جذوره هناك تعانق الأرض عناقا أبديا مدركا عجزه التام عن أن يغلبه.

هو الآن غير قادر على أن يتخطى منطقة الحدود إلى أى اتجاه سواء إلى وطنه السابق أو إلى أى مكان خارج هذه الحدود.

اقترب منه حصانه فى هدوء خافضا رأسه مستشعرا جلال وهيبة الحزن المسيطر ثم مسح رأسه فى كتف صاحبه.. فنظر إليه صاحبه ليجد فى عينيه نفس الحزن الذى يسكنه معلنا عن نفسه بدموع تشق مجرى لها فى وجه الحصان.

احتضنه الرجل باكيا هو الآخر ثم قال:
"ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعبر هذه الحدود.. قلبى يرفض وروحى تصرخ وقدماى تتمردان على.. لا أستطيع أن أترك الوطن الذى اتخذه قلبى ملاذا له ومحرابا يتعبد فيه بكل تراتيل الحب التى تتفتح ببركتها كل زهور الكون وتضوى نجوم الليالى بفيض نورها.

يظل الرجل تائها بلا وطن قبل أن تشتعل بداخله مشكاة الحب لتدله بنورها على وطنه الحقيقى، فى عينى امرأة لا يرى حياة دونها.

أنت تعلم أنى قد أحببتها حبا أفنى أنانيتى وكنت سعيدا وأنا أصبح مجرد ذرات متناثرة فى فلكها وصار صدى دقات قلبها مسموعا فى صدرى.

ولكن بعد كل هذا وكما شهدت بنفسك يا صديقى أصبحت زهورها تبخل عنى بعبيرها بل كادت جنتها لتبتلع زهورها كلما اقتربت أحاول أن أجد من ريحها.. هجرت نجومها ليلى الذى كانت تسامره.. تغيرت ترنيمة طيورها.. ثم فاجأنى خنجرها فى ضوء النهار تستله فى مواجهتى لتغرسه فى قلبى مرارا وتكرارا وأنا أنظر إلى عينيها ودموعى تسيل فتسقط لتنبت تحت قدماى أشواكا".

توقف عن الكلام لأن صوته قد حبسه النحيب فأطرق الحصان متأثرا ثم نظر مرة أخرى إلى صاحبه وعينيه تريدان أن تسألاه: "هل كرهتها؟"

هدأ نحيبه ثم رد على سؤال حصانه:
"لو كنت أستطيع أن أكرهها لما عانيت كل هذا ولما عجزت عن تخطى حدود مملكتها.. يجتمع بداخلى قوتان متصارعتان تمزقاننى أتمنى أحداهما أن تصرع الأخرى حتى يتوقف عذابى.

الكراهية نار مدمرة تحرق وعذاب حريق الحى رغم فظاعته إلا أن ألمه يهدأ ويتوقف تماما بموته.. ولكن فى مثل حالتى فهناك فى قلبى حبا خالد الحياة لا يموت أبدا ولذلك فقد كتب عليه أن يظل يعانى من عذاب الحريق دون أمل فى موت يريحه".

وجه الحصان بعينيه مرة أخرى سؤالا آخرا: "وماذا بعد؟ أين سنتوجه الآن؟"
سكت قليلا ثم نظر إلى المدى وقال: لا أعرف.

ثم نظر إلى حصانه مرة أخرى ليخبره بقراره الأخير قائلا: "سنحط رحالنا هنا على الحدود.. سأقضى ما بقى لى من عمرى هنا على هذه الحدود إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا".

ساد الصمت إلى أن كسر الصمت صوته مرة أخرى مخاطبا حصانه:
"إن جاء أجلى فاحملنى إليها وادفنى فى أحضان أرضها فلازال هناك وطنى".





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة