منذ مطلع التسعينيات انقطعت الصلة بأدباء العراق، ولم يعد هناك من يمد الجسور بينهم وبين باقى العرب، التجارب المؤلمة التى عاشوها طوال ربع قرن، أفرزت لا شك مئات المبدعين الذين يقاومون بإبداعهم، أفرح حين أكتشف صوتا جديدا مثل عارف الساعدى «مواليد 1975»، قرأت له هذا النص الذى يبدو سهلا على صفحة الشاعرة الفلسطينة الرائعة فاتنة الغرة المقيمة فى بلجيكا، وتتبعت نصوصه على الإنترنت لأكتشف شاعرا عموديا يمتلك مهارات لغوية وإيقاعية مفرحة، فى هذا النص النثرى «مشغول» أشار إلى شىء كبير يحدث هناك، فى البداية يعدد لك أسباب انشغاله، إيصال الأولاد إلى المدرسة وعودتهم، والبيت والعمل والأصدقاء وريموت التليفزيون، انشغاله بالحمى التى تدور على أولاده، بالكمادات وما إلى ذلك، وفى النهاية يكتب كيف لهذا المشغول جدا أن يستيقظ فى يومٍ من الأيام وهو بلا شغل.
المشغول جدا لم يعد يحتاجه أولاده لشراء الحلوى، ولم يعودوا يبكون على صدره، لم يطلبوا منه الماء فى منتصف الليل، لأنهم فى غرف بعيدة عنه، لم يعكروا ليله مع زوجته، وها هو ليله الآن صافٍ بلا أطفال، وهادئ بلا صراخ، وموحش بلا طلبات، إلى أن يصل منذ زمن بعيد لم يسمع تفاهاتهم اللذيذة، ونفاق بعضهم على بعض، ها هم الآن يتندرون على شيبه الكثيف، ويسخرون من مزاجه فى الأغانى، أين ذاك المشغول يارب، أين ذاك الذى يتسلى بالوقت، لم يعد يردد كلمة مشغول، لأن هاتفه النقال بدأ يخلو شيئا فشيئا من الأصدقاء، هو يحتفظ بأرقام أصدقائه الموتى فقط، يتصل عليهم كل وحشة، فيردون عليه بأنهم مشغولون، أصدقاؤه الخمسة آلاف فى الفيس بوك، مات الكثير منهم، وضاع الكثير أيضا، وحذفه الكثير، الفيس بوك انقرض تماما، ليس فى فضائه الموحش سواه، وثلاثة أصدقاء آخرين، ينشرون كل شهرين صورا تعود لأربعين سنة مضت، فيرى ثلاثة لايكات، ويقرأ تعليقين «شباب دائم»، يضحك طويلا ويغلق صفحته.. ولا ينام.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة